((لحظات
المرض والألم والمعاناة هي لحظات عبادة وجهاد))
نعم إنها حقيقة جميلة، إنها
حكمة مريحة للقلب والأعصاب، ما أطول زمن النوائب.
دائمًا في حياة الإنسان
الأفراح قليلة، والأحزان كثيرة، والمعاناة كثيرة، وساعات الفرح قليلة، لقد ذكرت
لكم أن سيدنا صلوات ربي وسلامه عليه لم يسترح، ولم يهنأ بالحياة الدنيوية؛ لأن
حياته كانت جهادًا في جهاد في جهاد، وفي تعبئة الجيوش، وفي نصح الأمة، وفي تعليم
الأمة، وفي تربية الأمة، هكذا كانت حياة النبي صلوات ربي وسلامه عليه، ما أطول زمن
النوائب! وما أقصر زمن الهناء! هذا صحيح، الإنسان عندما يتأمل في حياته سيرى أنه
يمرض كثيرًا، وأن أولاده يمرضون، أو يُحسدون -مثلا-، والحياة في حد ذاتها تحدٍ
وصعوبة لمن أراد أن ينجح فيها، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث عند
الإمام البخاري: ((مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُصِبْ منه))،
أي أن الله تعالى يريد لعبده خيرًا، وعندئذٍ يختبره، وليس هذا الحكم معناه أن
الإنسان الذي لا يشتدُّ عليه البلاء إيمانه ضعيف، لا، ولكن الله سبحانه وتعالى
يختار من عباده من يشاء لكي يرفع من درجاتهم؛ لأن الله تعالى كتب لنا في سابق
رحمته منازل في الجنة، والجنة مائة درجة ، ما بين كل درجة ودرجة قدر ما بين السماء،
والأرض.
وكي تبلغ المنزلة التي وضعك
الله تعالى فيها في الجنة، مطلوب منك عبادة واجتهاد، وكذا وكذا.. لكنك - كما هو
حالي - خامل متكاسل، وأنت لك درجة محددة في الجنة، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ
مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]المقعد ينتظرك، لكن عملك لم يرقَ بك إلى تلك
المنزلة، وإلى هذا المقعد، فيزيد الله تعالى لك في البلاء كي تبلغ المكانةَ التي
جعلها الله لك في الجنة، ولذا قال سيدنا صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُرِدِ اللَّهُ
به خَيْرًا يُصِبْ منه)).
فالمسلم يثاب من المرض.. حتى
الشوكة يشاكها فإنها تحط عنه من خطاياه، وهذه الحكمة التي معنا نفهم منها نوعًا من
العبادة جديدًا، اسمه العبادة السلبية، المرض يمنعك أن تمارس حياتك، الألم
والعمليات الجراحية والبقاء في العنايات المركزة وفي المستشفيات ألم ومرض يمنعك أن
تفعل ما كنت تفعل وأنت معافى.
لحظات المعاناة كالذي كُتِب
عليه الحبس ظلمًا، أو كالذي أُخِذ غدرًا، أو الذي خُطف غدرًا، هذه لحظات معاناة،
لحظات المرض هذه ولحظات الألم، ولحظات المعاناة البشرية، هي أفضل لحظات للإنسان في
الحياة، يتمنى الإنسان يوم القيامة لو أنها زادت وزادت، إذن هذه بشرى لكل المرضى،
وبشرى لكل أهل البلاء، وبشرى لكل أهل المعاناة في هذه الدنيا، هذه البشرى عنوانها:
وبشر الصابرين، هذه البشرى عنوانها: من يرد الله به خيرًا يصب منه، هذه البشرى
عنوانها: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:
10]، لحظات الألم هي عبادة؛ لأنك جالس في سريرك أو في محبسك، أو مطارد دون وجه حق،
هذه كلها لحظات ألم، وأنت لا تفعل شيئًا عندئذ سوى انتظار الفرج، وهذه عبادة.
الله تعالى يكتب لك في مرضك
وفي ألمك وفي معاناتك الحسنات التي كنت تؤديها وأنت صحيح معافى، كما ذكر سيدنا صلى
الله عليه وسلم، أي أن الله تعالى يجري عليك الحسنات التي كنت تفعلها في حال كونك
مريضًا الآن لكنك كنت تقيم الليل في حالة المرض فأجرك موصول، وثوابك ممدود عند
الله سبحانه وتعالى جل شأنك يا الله.
الإنسان إذا مرض وعافاه الله
فإنه يخرج من مرضه أشبه بالملائكة، نظيفًا تمامًا، غُسِّل وطُهِّر من مرضه، وإذا
لقي الله تعالى بعد مرضه-أي مات- بعد المرض، فإنه يَلقى الله تعالى طاهرًا مطهرًا،
في الحاليتين المرض والبلاء نعمة لك، في حالة أن الله تعالى يطيل عمرك، فإن الله
تعالى قد غسلك، وطهرك، وفي حالة أنك تلقى الملك، فإنك تلقاه وليس عليك خطيئة
واحدة.
لحظات الألم والمرض والمعاناة
هي ساعات عبادة وجهاد، هل تعرفون لماذا؟ لأن الجسم يحتاج إلى غربلة، ويحتاج إلى
تنقية، بل ربما يحتاج إلى راحة، ويأتي الألم ويأتي المرض أحيانًا راحة لهذا
الإنسان الذي يجري في الحياة جري الوحوش،
وقد كلَّ وملَّ وتعب، وعندئذ يأتي المرض راحة للذهن، وراحة للقلب، وبداية للفرج،
عندما ننتهي من زراعة أرض بمحصول معين، مثل الأرز، أو القمح، أو الذرة، ثم نريد أن
نزرعها بعد هذا زراعة جديدة، عندئذ، فإن التربة يضاف إليها عناصر جديدة، أو تستبدل
من حيث المظهر الخارجي، لا بد أن تفعل شيئًا في هذه التربة، لكي تكون جديرة أن
تعطي إنتاجًا جيدًا، ولا يزرع فيها على حالها، بل تترك فترة زمنية معينة كي تستريح
الأرض، ثم تبدأ بعد هذا في العطاء، مع إضافة عناصر تقوية، وعناصر تنشيط لهذه
الأرض، كذلك الإنسان الذي مرض وتعب أسبوعًا أو أسبوعين، أو كان مكسورًا وجالسًا
ممنوعًا من الحركة، وبعد أن يتحرك برجليه، أو أن يعافى من عمليته الجراحية، يبدأ
يتحرك ويذهب إلى عمله، ويذهب إلى مسجده، فيستشعر الفارق الكبير بين حالة المرض
والمعاناة، وبين حالة الفرج والعافية.