الله الملك العليم الله جل جلاله هو السيد، وهو الذي فتح قلوب العباد لاستقبال أنواره، وهدى أعينهم لتعلم وتشاهد أسراره، فكيف أشاهد أسرار السيد سبحانه وتعالى؟ جاء هذا في قوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59). وعند الله جل وعلا مفاتح الغيب، أي: خزائن الغيب، لا يعلمها إلا هو، ومنها: علم الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، والكسب في المستقبل، ومكان موت الإنسان، ويعلم كل ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة من نبتة إلا يعلمها، فكل حبة في خفايا الأرض، وكل رطب ويابس، مثبت في كتاب واضح لا لبس فيه، وهو اللوح المحفوظ، اللهم اجعلنا من المتحابين فيك، الصادقين في معاملتك. ولأنه هو السيد سبحانه وتعالى، فإنه جعل الناس متحابين في جلاله، فلا ترى مكانًا فيه نور، وفيه بهاء أفضل من المكان الذي فيه اجتماع على غاية واحدة، وهي حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد دعانا الله تعالى إلى مكان واحد، ولما دعانا إلى مكان واحد جعلنا من المهتدين، كما في قوله تعالى{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18). لا يعتني ببيوت الله ويعمرها إلا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ولا يخافون في الله لومة لائم، هؤلاء العُمّار هم المهتدون إلى الحق.. فأعظم هداية هي التي نحن فيها الآن، فـ"إذا أحب الله عبدًا أعطاه الإيمان"، كيف يأتي إليك هذا الإيمان؟ قال تعالى{إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2)، فالإيمان قلوب تسعى إلى طاعة الله، وإذا تليت عليهم آياته، أي: توجد متابعة الإيمان، ذكر الله وتلاوة القرآن من متطلبات الإيمان، الإيمان ذِكر وتلاوة، فكيف أبحث عن مرتبة أصير بها إلى السيد تبارك وتعالى، أقول: هيا بنا إلى الملأ الأعلى، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: حُبِسَ عنَّا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ذاتَ غداةٍ من صلاةِ الصُّبحِ حتَّى كدنا نتَراءى عينَ الشَّمسِ، فخرجَ سريعًا فثوِّبَ بالصَّلاةِ، فصلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وتجوَّزَ في صلاتِهِ، فلمَّا سلَّمَ دعا بصوتِهِ فقالَ لَنا: علَى مصافِّكم كما أنتُمْ، ثمَّ انفتلَ إلينا فقالَ: أما إنِّي سأحدِّثُكُم ما حبسَني عنكمُ الغداةَ: أنِّي قمتُ منَ اللَّيلِ فتوضَّأتُ فصلَّيتُ ما قُدِّرَ لي فنعَستُ في صلاتي فاستثقلتُ، فإذا أَنا بربِّي تبارَكَ وتعالى في أحسَنِ صورةٍ، فقالَ: يا مُحمَّدُ قلتُ: ربِّ لبَّيكَ، قالَ: فيمَ يختصِمُ الملأُ الأعلى؟ قلتُ: لا أدري ربِّ، قالَها ثلاثًا قالَ: فرأيتُهُ وضعَ كفَّهُ بينَ كتفيَّ حتَّى وجدتُ بردَ أَناملِهِ بينَ ثدييَّ، فتجلَّى لي كلُّ شيءٍ وعرَفتُ، فقالَ: يا محمَّدُ، قلتُ: لبَّيكَ ربِّ، قالَ: فيمَ يختصمُ الملأُ الأعلى؟ قلتُ: في الكفَّاراتِ، قالَ: ما هنَّ؟ قلتُ: مَشيُ الأقدامِ إلى الجماعاتِ، والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصَّلاةِ، وإسباغُ الوضوءِ في المكْروهاتِ، قالَ: ثمَّ فيمَ؟ قلتُ: إطعامُ الطَّعامِ، ولينُ الكلامِ، والصَّلاةُ باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ. قالَ: سَل. قُل: اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأن تغفِرَ لي وترحمَني، وإذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوفَّني غيرَ مفتونٍ، وأسألُكَ حبَّكَ وحبَّ من يحبُّكَ، وحبَّ عملٍ يقرِّبُ إلى حُبِّكَ، قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: إنَّها حقٌّ فادرُسوها ثمَّ تعلَّموها". قال تعالى:عن عباده الصالحين الذين يقدمون الخير لأنفسهم يرجون ما عند الله {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (فاطر: 29). والمعنى: إن الذين يقرأون القرآن، ويعملون به، وداوموا على الصلاة في أوقاتها، وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا، هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه. الإيمان يحتاج إلى متابعة، والحسنة تحتاج إلى حسنات {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}، فـ"رَزَقْنَاهُمْ" كلمة واسعة، وليس معناها المال، بل أنفقوا مما رزقناهم، حتى ولو بالكلمة الصالحة، فهذا إنفاق، أن تكثر من ذكر الله هذا إنفاق، وأن تكثر من الصلاة على رسول الله هذا إنفاق، وأن تكفَّ أذاك عن الناس هذا إنفاق، وأن تغض بصرك هذا إنفاق، وألا تدخل على نفسك إلا حلالًا هذا إنفاق {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (فاطر: 29). إن الذين يقرأون القرآن، ويعملون به، وداوموا على الصلاة في أوقاتها، وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا، هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه، فاللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، فالذي يمنعك من المعصية هو الخشية والمخافة، فاللهم اقسم لنا من خشيتك خوفك الذي يستقر في قلوبنا، خوف المؤمنين من عذاب يوم عظيم، قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأنعام: 15)، والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مع الله غيره: إني أخاف إن عصيت ربي، فخالفت أمره، وأشركت معه غيره في عبادته أن ينزل بي عذاب عظيم يوم القيامة، فاللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومِن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومِن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدينا.