الفرح الحقيقي هو الفرح بالقرب من الله ومعرفة كتابه
لا حزن مع الله أبدًا، ولهذا قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبى بكر رضي الله عنه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأَى شيء يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].
إن الفرح بالله تعالى إذا سكن قلب العبد لا يزول أبدًا؛ لأنه إذا فرح بالله تعالى في الدنيا فرح بلقائه عند الموت، وفرح بلقائه يوم القيامة، وفرح برؤيته في الجنة، والله تعالى يفرح بلقاء من فرح به من عباده؛ كما قال سبحانه: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170] وفي الحديث: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ).
لا فرح أعظم من الفرح بالله تعالى وبشرعه؛ لأن معرفة الله تعالى تدعو إلى تعظيمه، ومعرفة شرعه تقود إلى اتباعه، ولأن الفرح بالله تعالى يورث القلب طمأنينة، ويملؤه أمنًا، والفرح بشرعه يوجد للطاعة لذة عند العبد لا تعدلها لذائذ الدنيا ولو اجتمعت كلها.
ولنتأمل فرح النبي صلى الله عليه وسلم بتنزل القرآن وما فيه من الآيات والأحكام في قوله عليه الصلاة والسلام في إحدى السور: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] رواه البخاري. ولولا فرحه صلى الله عليه وسلم بهذه السورة لما جعل نزولها عليه أحب إليه من الدنيا كلها.
ولنتأمل فرح الصحابة رضي الله عنهم بتنزل القرآن في قوله سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] إنهم يستبشرون بتنزل الآيات وما فيها من الأحكام، ولا يضجرون منها أو يستثقلونها.
ولقد كانت الصلاة راحة للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعلت قرة عينه، لأنها صلة بالله تعالى، وغاية فرح العبد صلته بمحبوبه ومعبوده؛ ولذا كان غاية فرح أهل الدنيا أن يخلو أحدهم بعظيم من العظماء ينثر له مدحه، ويبث شكايته، ويرجو نفعه وصلته، فكيف إذن بالخلوة بالله تعالى في الصلاة، والقرب منه في السجود، وبث الحاجة إليه بالدعاء، لا مقام لأهل الفرح بالله تعالى أعظم ولا ألذ من هذا المقام. ومن شكا ثقلا في الصلاة، وعجزا في القيام لها، وكسلا في أدائها، وفقدانا للخشوع فيها، فليتفقد قلبه فإنه ناقص الفرح بالله تعالى وبطاعته فليزده في قلبه تصلح له صلاته.
الفرح بطاعة الله يستلزم التفكر فمن فرح بالله تعالى أكثر من التفكر في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقداره في خلقه. ولذا قال بعض الصالحين: (مَنْ أَدَامَ النَّظَرُ بِقَلْبِهِ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الفَرَحَ بِاللهِ تعالى). ومن فرح بالله تعالى أدمن ذكره، فلا يفتر لسانه عن اللهج به، ولا يغفل قلبه عن التفكر فيه؛ وذلك أن من فرح بأحد أكثر ذكره.
إن الفرح بالله تعالى هو أعلى نعيم القلوب، وأرفع لذائذ النفوس، ومقامه أعلى المقامات، والعبودية به أجل عبودية، وبه تفتح أبواب اللذة بالعبادة، والخشوع فيها، والمداومة عليها، وما عُبد الله تعالى بشيء أعظم ولا أجل من الفرح به والفرح بالعبودية له سبحانه وتعالى.