(بلاغة اللفظ القرآني في الجمع بين المعني اللغوي والمعنى الشرعي)
نزل القرآن الكريم بلغة العرب، ووقع فيه من الألفاظ ما لها دلالات خاصة في الشرع لم تكن معروفة قبل عند العرب، وهذه الألفاظ هي مصطلحات وأسماء شرعية، مثل ألفاظ الجنة والنار، والصلاة والزكاة، والعمرة والحج، البعث والنشور، وغيرها من الكلمات التي صار لها مدلول خاص عند المسلم، فإذا سمع أحد هذه الألفاظ تبادر إلى ذهنه المعنى الشرعي لها.
والمقصود هنا أنه إذا اختلف المعنى الشرعي والمعنى اللغوي فإن المقدَّم المعنى الشرعي؛ لأن القرآن نزل لبيان الشرع لا لبيان اللغة، إلا أن يكون هناك دليل يترجح به المعنى اللغوي، فيؤخذ به، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ففي قوله: {وَلاَ تُصَلِّ} احتمالان:
الأول: الدعاء، وهذا هو المعنى اللغوي.
الثاني: الوقوف على الميت للدعاء له بصفة مخصوصة.
فيقدم هذا المعنى الشرعي؛ لأنه المقصود للمتكلم المعهود للمخاطب.
ومما دل الدليل فيه على إرادة المعنى اللغوي مع احتمال الشرعي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103].
وقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم، ويدل على ذلك ما رواه مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بصدقة قوم صلَّى عليهم، فأتاه أبي بصدقة فقال: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى»( )
وقد ذهب ابن كثير( ) في تفسيره في أكثر من موضع إلى جواز الجمع بين المعنى اللغوي العام والمعنى الشرعي الخاص ما دام السياق محتملاً لهما، وقد أورد لذلك أمثلة شتَّى من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾[المؤمنون:4]؛ فقد حكى أقوال المفسرين هنا في معنى الزكاة، وهي لا تخرج عن معنيين:
[أ] المعنى الشرعي: وهو الزكاة الشرعية، ( بمعنى إخراج قدر محدود من المال إلى مستحقيها بشروطها )، وهي إما المفروضة على القول المرجوح؛ وإما بمعنى الصدقة وقد كانت مشروعة آن ذاك.
[ب] المعنى اللغوي: وهو يرجع في أصله إلى معانٍ، منها: الطُّهر والنماء والصلاح، فكأنَّ المقصود هنا هو تطهير النفس وإصلاحها وتنمية جوانب الخير فيها، على نحو قوله تعالى:﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14]، وقوله تعالى:﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾[الشمس: 9].
وبعد حكايته للقولين الواردين في هذا الموضع قرر مذهبه في جواز الجمع بين كلا المعنيين اللغوي والشرعي بشرط احتمال السياق لهما؛ فالسياق سياق ذِكرٍ لجُملةٍ من الخِصالِ الحميدةِ التي اتصف بها المؤمنون، واستحقوا بها المدح والثناء من الله تعالى.
وهناك شواهد أخرى كثيرة على مسألة جمع القرآن الكريم بين المعنيين اللغوي والشرعي، ومنه – كذلك – ما أشار إليه ابن كثير في تفسيره بعد جمعه لآراء العلماء والمفسرين والمفاضلة بينهم وترجيح أقواهم، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾[الإسراء:110]؛ فقد أورد ابن جرير الأقوال في معنى الآية، وحاصلها:
1-قسمٌ حَمَلَ الصَّلاةَ على المعنى اللغوي وهو الدعاء.
2-قسم حملها على المعنى الشرعي المعروف بما تشتمل عليه من قراءة وذكر.
3-قسم حملها على بعض أجزاء المعنى الشرعي وهو القراءة؛ فكأنه جعلها من المجاز المرسل ذي العلاقة الجزئية.
ولا بد لنا في هذا المبحث أن نذكر أن العرب كانوا يحملون كلام الله على الأغلب المعروف من لغة العرب، دون إنكار المجهول أو الشاذ.
وذلك أن يكون للكلمة في لغة العرب أكثر من معنى؛ فيختار المفسر المعروف الأغلب إلا أن يقع دليل على غير ذلك، مثال: قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا} [النبأ: 24]. قيل في البرد قولان:
الأول: هو برد الهواء الذي يبرد جسم الإنسان، الآخر: النوم.
وقال ابن جرير معلقًا على القول الآخر: «والنوم وإن كان يبرد غليل العطش، فقيل له من أجل ذلك: البرد، فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره»