فما ظنكم برب العالمين؟
الحمد لله رب العالمين، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، يا عز كل ذليل، يا غنى كل فقير، يا مفزع كل ملهوف، وكلنا ملهوفون مشتاقون إلى عفوك وكرمك يا رب العالمين.
يا جليس الذاكرين، يا أمان الخائفين، يا من بقدرته تحيا النفوس، يا من بقدرته نتحمل الآلام والأوجاع والأسقام.
"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب"، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، المخلِصين المخلَصين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا وقدوتنا وموقذ همتنا سيدنا محمد، أشرف الأعراب والعجم، خير من يمشي على قدم.
اللهم بلغ الآن صلاتنا وسلامنا عليه، فإن صلاتنا تعرض عليه يوم الجمعة.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد أوراق الأشجار، وذرات الرمال، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، وعلى آله وصحبه.
خطبة اليوم استكمال لخطبة الجمعة الماضية التي كان عنوانها: الجهجهاه والدهيماء.
"فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ" أظن أن هذه الآية هي الحد الفارق، والحد الفاصل بين ظن الإيمان، وبين ظن الكفر.
لقد اخترت لكم هذه الخطبة بعناية، لأن الخطبة الماضية زلزلت القلوب، وأيقظت الغافلين، وهذه الخطبة الستون: فما فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
ظن الأنبياء
ظن الأنبياء من حيث الترتيب في الظن، هو الظن رقم "2" شهودية الملائكة مقدمة عن شهودية الأنبياء، {وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُۥ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}، هل تذبذب إيمان أحدهم؟ لا لأنهم يشاهدون مظاهر العظمة.
حتى إن سيدنا صلى الله عليه وسلم قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولكيتم كثيرا".
فما بالكم بالملائكة؟ إذا أردت أن تصعد إلى أحد الكواكب القريبة، تأخذ ستة أشهر، والملك ينزل إلى سيدنا محمد في لحظة.
هذه الأمور لا نقدر أن نستوعبها، ولا أن نحيط بها علما، إلا أن تقول: الله أكبر.
الأذان لا يبدأ: الله رحيم، االله كبير، لكن يبدأ: الله أكبر، الله أكبر عن كل ما يرد على ذهنك، الله أكبر عن أي تخيلات شيطانية، الله أكبر عما يقولون، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) }.
هل سمعت هذا الجدار يؤذن ويصلي؟ الملائكة يسمعونه، فما ظنكم برب العالمين؟
ظن الأنبياء بعد الملائكة، هو ظن أهل القمة، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)}، هذا يقين الأنبياء.
{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}، الله تعالى ينمي عندنا اليقين، {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)}.
فأنت موصول بحبل برب العالمين، فإذا وصلت الحبل وصلك الله، وإذا قطعت الحبل فقد حجبت نفسك عن الله.
الله لا يقطع، وحاشاه أن يقطع.
{مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}.
ظن سيدنا إبراهيم، ويقين سيدنا إبراهيم، أنه إذا ألقي في النار، هل سيحترق؟ كانت النار على مساحة أربعين فدانا، ولم يطلب الفرار، ولم يركع أمام شياطينهم، وهو يعلم أنه سينجو منها بردا وسلاما، هذا يقين سيدنا إبراهيم برب العالمين.
أين الله في حياتكم؟
كيف ظن الأنبياء بالله رب العالمين؟ ظنوا ظنا صادقا، وقد ذكرت لكم سيدنا موسى، وسيدنا محمدا، وسيدنا إبراهيم.
ظن المؤمنين
كيف حال ظن المؤمنين بالله رب العالمين؟ يقول علي رضي الله عنه: لو كشفت الحجب بيني وبين الله ما ازددت يقينا؛ لأن يقيني في الله أعظم من المشاهدة، فما ظنكم برب العالمين؟
ركعت الآن فسبحت لله الملك، وعشت حالة من العظمة والجلال لله الملك، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سمع الله لمن حمده، وبالتالي أنت تثبت في كل يوم حسن الظن بالله رب العالمين.
ذكر نفسك وقلبك أنك في كل صلاة تجدد عهدا مع الله، وبيعة مع الله، على رأسها: يا رب إني أعلم أنك تسمعني الآن وتراني، وترى خلجات فؤادي.
كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا
هل وصلتم إلى هذه المرحلة؟ هل تخيلت العرش أمامك؟ هل تخيلت الكرسي أمامك؟ سأل النبي صحابيا شابا اسمه الحارث، فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ فقال: أصبحت مؤمنا يا رسول الله، فسأله: فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت ربي، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة ينعمون فيها، وإلى أهل النار يعذبون فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: عبد نور الله قلبه، وفي رواية: عرفت فالزم.
خرج المسلمون في غزوة في سبيل الله، ومعهم حارثة فاستشهد، فجاءت أمه تسأل عليه، فقال لها: إن ابنك حارثة ليس في جنة، وإنما في جنة داخل جنة في أعلى فراديس الجنان على يمين عرش الرحمن.
الإيمان قبل أن يكون عملا، لا بد أن يكون يقينا، واليقين في قوله: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، يستحضر الله تعالى في كل شيء، يرى الله تعالى في الهواء الذي يتنفس، يرى الله تعالى في نظرات عينيه.
لا بد أن ترى الله تعالى في كل شيء أمامك، القرآن يستخدم أسلوب التشويق في الحديث عن الآيات الكونية.
آية كونية واحدة جعلت علماء البحار في كل العالم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
في مؤتمر علمي، خرج باحث عربي وعرضا بحثا مستشهدا بقوله تعالى وترجمت الآية: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)} فقام رئيس المؤتمر وكان أكبر عالم بحار في العالم، فقال: لا يقول هذا الكلا إلا من عمل في البحر غواصا على الأقل أربعين سنة، فقيل له: إن الذي تنزل عليه هذا القرآن لم ينزل البحر، ولم ير البحر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فدخل كل من في المؤتمر الإسلام بآية واحدة.
يقول تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}.
عندنا في القرآن ست عشرة آية تبدأ بـ: ألم ترَ، ألم يرَ، ألم يروا.
الخطبة الأخرى
الحمد لله رب العالمين، حمدا يليق بجلالك وكمالك يا رب العالمين، إذا دعوت الله وظننت أنه سيغيثك فهذا نعم اليقين بالله.
دعاء اليقين في التيسير من رب العالمين
يا سامع كل نجوى، يا كاشف كل بلوى، يا واسع الرحمات، يا قاضي الحاجات، يا أكرم الأكرمين، يا رجاء السائلين، يا أكرم من سئل، يا أوسع من أعطى، أقسم بك عليك يا من رحمته واسعة، يا من نعمته سابغة، يا من له الجلال وله الكمال، وله العظمة والكبرياء، فوضنا أمرنا إليك، أنخنا مطايانا بين يديك، يا رفيق، يا شفيق أنت الرب الحقيق، نجِّنا من كل ضيق، وارزقنا حسن اليقين فيك، وحسن الرضا عنك، زدنا بك إيمانا ويقينا، نسألك إيمانا يباشر قلوبنا، حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبته لنا، زدنا إيمان ويقينا يباشر قلوبنا، حتى لا نحب تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجلت، مددنا أيدينا إليك، يا من يرجَّى في الشدائد كلها، يا من إليه المشتكى والمفزع، ارزقنا صلاح المؤمنين، وإيمان المتقين، ويقين المتوكلين، وتولين المحبين، وصدق الملحين في الدعاء، وأنت تعلم حالنا، وترى مكاننا، ولا يخفى عليك شيء من أمرنا، أقسم بك عليك اجعلها جمعة الفرج، يا من يرجى في الشدائد كلها، يا من إليه المشتكى والمفزع، يا من خزائن ملكه في قول: كن اممن فإن الخير عندك أجمع، ارحمنا وارحم من سبقونا إليك، اجعلهم في مقام الرضا والرضوان، ارض عنا وعنهم، لعلك ترضى، {وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} {لا تحزن إن الله معنا}، {إن معي ربي سيهدين}، {فما ظنكم برب العالمين}.