هذه الحكمة، لها جناحان:
الجناح الأول: استصغار ما منك إليه (إلى الله).
الجناح الآخر: استعظام ما منه إليك.
هذا كلام جميل، ومعناه أن كل ما تفعله من حسنات ومن خيرات ومن طاعات، يعتبر صغيرًا بجوار فضل الله عز وجل عليك، بـكم تشتري شربة الماء إذا حيل بينك وبين الماء؟ بالدنيا كلها، إذن كل العبادة التي لك على مدى سنوات عمرك لا تساوي أي شيء بجوار أقل نعمة يعطيها الملك لك، استصغار ما منك إليه، وفي الوقت نفسه استعظام ما منه إليك، أي تعظم شأن الله عز وجل.
قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:13]؛ لأنكم لم تعرفوا قدر الله سبحانه وتعالى ولم تقدروه حق قدره، عندئذ نجهل بالله، ونُغضب الله، ونعصى الله سبحانه وتعالى، هذا معنى استعظام ما منه إليك.
استعظام جميع النعم، أي وضعها في المكان الذي يليق بها، كيف أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم؟ وكيف أن الله تعالى أقام السموات السبع، ولم يعي بخلقهن؟ وكيف أن الله تعالى بسط الأرض على ماء جمد؟ هذا هو المعنى، إذن معيار الخُلق الحسن في الإسلام أن الإنسان مهما فعل من أخلاق طيبة بجوار فضل الله سبحانه وتعالى، فلن يكون شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكم لا تَسَعُونَ الناسَ بأمْوالِكم، ولكِنْ لِيَسَعْهُمْ منكُمْ بسطُ الوجْهِ، وحسنُ الخلُقِ ))( )، أي إن الناس لا يريدون منكم إلا أن تستقبلوهم بالبشاشة، يقول أحد الصالحين: ((لو أن الإنسان أحسن بينه وبين الله سبحانه وتعالى في كل شيء وأساء في دابة مثلاً، فإنه لم يكن من المحسنين))، فالإحسان عملية كلية، والخلق الحسن عملية كلية، فلا تكن في بيتك شريرًا، وعندما تخرج إلينا، أراك من الصالحين الكبار، إنما يجب عليك أن يكون حالك واحدًا، تستصغر الأعمال التي تفعلها، وفي الوقت نفسه تعظم نعمة الله تعالى عليك.
ذكر نفسك أن فضل الله تعالى عليك كبير، والله تعالى يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 174]، هل الله تعالى يريد لكم العذاب والعنت؟ لا، لكن الله تعالى يريد منكم في مجال الأخلاق الحسنة بالأخص أن يكون الإنسان على المرتبة التي كان عليها سيدنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
اللحظات التي كفَّ فيها الأذى عن الغير، والصبر على أذى الناس من أجمل أوقات العبادةو كفُّ الأذى عن الآخرين مع القدرة على الرد، مثال: شخص شتمك أو ضربك أو صفعك، وأنت لم تردَّ عليه بأي طريقة من الطرق، هذا هو الجهاد الكبير، جهاد الحياء، الذي كان عليه رسول اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، الخلق الحسن استصغار ما منك إليه، واستعظام ما منه إليك لماذا؟.
لأن الإنسان عندما يستصغر الحسنات التي فعلها، يكون في حاجة إلى أن يفعل المزيد، والمزيد، ولا يتعاظم الأمر في نفسه، فيقول أنا أفعل كذا، وكذا، ففي الحديث((لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنكم الجنةَ بِعَمَلِه، قالوا: ولا أَنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتغمَّدَني اللهُ منه بِرَحْـمةٍ وفَضْلٍ، ووَضَعَ يَدَه على رَأْسِه))( )، فتبين في النهاية ان الجنة يكون دخولها برحمة الله سبحانه.
سيدنا موسى عليه السلام يقول لربه سبحانه وتعالى: يا رب أسألك ألَّا يذكرني أحد بسوء، لا يعيب عليَّ أحد، يا رب امنع الناس أن يقعوا في عرضي، فقال له الملك: لا يا موسى، لن يحدث، ما فعلت هذا لنفسي، فكيف أفعله لغيري، أي أن الله سبحانه وتعالى ترك العباد يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون، وهو الرازق، وهو الخالق، وهو المعطي، وهو المتفضل، ورغم هذا، الذي يسب الدين يعيش، ويرزقه الله تعالى، والذي يفعل المعاصي يعيش، ويرزقه الله تعالى، والذي يقع في الكبائر يعيش، ويرزقه الله. ولكن الله تعالى يمهلهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم.
ولو أن الله سبحانه وتعالى عاملهم بالسوء، فلن يحتملوا أن يعيشوا أبدًا، لأنهم خالفوا العهد الذي بينهم وبين الله. قال تعالى: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا، هذا العهد لا يتحمله إلا القليلون من الناس، قال الملك: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا، وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [النساء: 66 -68].