أولا: المستوى الصوتي:
هناك علاقة بين الصوت والدلالة في اللغة العربية أظهر مما في اللغات الأخرى؛ لأن اللغة نظام من الرموز الصوتية، التي تقوم على مجموعة من العلاقات والقواعد، والعناصر المتوافقة فيما بينها، وإن دراسة دور الأصوات في بيان المعنى يسمى في علم الأصوات العام بعلم وظائف الأصوات، ومعرفته من المسلمات في النظرية السياقية، والمستوى الصوتي يعدُّ من الملامح النطقية غير التركيبية المصاحبة للعملية الكلامية، والمشاركة في أداء الرسالة اللغوية، وهذا المستوى له ظواهر أسلوبية مميزة في الكلام المنطوق لذا فالمستوى الصوتي أو الدلالة الصوتية هو المعنى المستفاد من نطق ألفاظ معينة، وهو طريقة الأداء اللغوي المصاحب للمنطوق، والذي يسمى في الدراسات الحديثة: الفونيم، وهي:
أ- النبر: وهو درجة أو قوة النفس التي ينطق بها الصوت، أو المقطع، والصوت معروف، أما المقطع فهو عبارة عن صوتين الأول صامت، والثاني صائت، والنبر يعني الضغط على مقطع معين من مقاطع الكلمة، فيعطي لها المقطع المنبور قدرًا من التمييز أو الوضوح السمعي، والذي يحمل بدوره قيمة دلالية كالانفعال أو الاهتمام أو التقرير أو التأكيد، أو هو الذي يترجم لنا المواقف الانفعالية التي تنطوي عليها نفسه أو هو ارتفاع الصوت وانخفاضه مراعاة للظروف المؤدى فيها.
والنبر على ثلاث درجات: النبر القوي، والنبر المتوسط، والنبر الضعيف، ويقوم النبر بوظيفة التمييز بين المعاني في داخل الكلمة ويعمل جنبا إلى جنب مع التنغيم في التمييز بين الأساليب، لذا فهو ملمح من ملامح الكلمة أو عنصر من عناصرها التي تميزها عن غيرها، وتحيلها كلا متكاملا من حيث البناء والطلاء، وهو ضرب من التطريز، تأكيدا لقيمته النسبية في بنية الكلمة، وهذا التطريز لا يعني مجرد التجويد والتزيين، وإنما يعني فضلا عن ذلك أنه عنصر يُكسب بنية الكلمة تكاملها، ويمنحها قواما متميزًا خاصًّا بها، الأمر الذي يجعل الكلمة وحدة متكاملة متَّسقة البناء والطلاء معًا، فيعد النبر مرتبطا بقوة الصوت وعلوّه، والنبر يقع في مقطع من المجموعة الكلامية.
ومثال النبر في قوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة : 10]، فلفظة "المفرّ" موضع النبر فيها يغير معنى الكلام كاملا، فإذا كانت النغمة هابطة عند النطق بالكلمة "مفر" بحيث تنتهي بحرف الراء، فإن المعنى ينقلب تماما "مفرْ" وبالتالي لا بد لقارئ القرآن الكريم أن يتنبه إلى أن يكون النبر صاعدًا عند النطق بالفاء وينتهي بالراء: م ف ر.
وقد يكون رسم الكلمة واحدًا إلا أن النطق يختلف، مثل: "ألم" و"ألف لام ميم"، الأحرف المقطعة، على اعتبار الهمزة للاستفهام و"الألم" من الإيلام، فالنبر وحده هو الذي يحل هذا الإشكال. ومثاله في قوله تعالى: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30]، فيكون النبر على "امرأة"، ويكون المعنى كما يلي: امرأة متزوجة محصنة وتفعل فعلتها تلك! هذا أمر شنيع، والنبر أيضا على "العزيز" ويكون المعنى: امرأة العزيز تفعل ذلك! هذا أمر شنيع، وحول النبر إلى تراود فيكون المقصود كما يلي: المعتاد عن بني آدم، وحتى عند الحيوان أن يكون الذكر هو الطالب للأنثى، وكذلك في لفظة: "فتاها": فما أشنع ما قامت به امراة العزيز! وفيه معنى لا يخفى على أحد، لو راودت – مثلا – شابًّا أو رجلا من طبقتها.
ولذا انصهر في النصوص القرآنية الشكل مع المضمون، والصوت مع الدلالة، فانتظمت الأصوات في سياقات تركيبية مناسبة، فاكتسبت قوة ومتانة وقدرة إيحائية وتعبيرية خاصة.
ب- التنغيم، ويعني: الإطار الصوتي الذي قيدت به الجملة في السياق، وهو أيضا رفع الصوت وخفضه في أثناء الكلام، للدلالة على المعاني المختلفة للجملة الواحدة.
وهو عبارة عن تتابع النغمات الموسيقية أو الإيقاعات في حدث كلامي معنيٍّ.
ولكل أسلوب نغمته الخاصة التي توضح الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية والاستفهامية، لذا هو تغيرات موسيقية تتناوب الصوت من صعود إلى هبوط، أو انخفاض إلى ارتفاع، لغاية أو هدف حسب المشاعر والأحاسيس التي تنتابها من رضا أو غضب، ويأس أو أمل، تأثير أو لا مبالاة، إعجاب أو استفهام، شك أو يقين، نفي أو إثبات، فهو تنويعات صوتية تكسب الكلمات نغمات موسيقية متعددة، ويعد من قرائن التعليق اللفظية في السياق( )، فالوظيفة الصوتية للتنغيم هي النسق الصوتي، الذي يستنبط التنغيم منها بيان وتوضيح الدلالة من خلال التنغيم العام للمقطع في النموذج الفني، فهو يعد وسيلة للتمييز بين المعاني، ويجلي النص ويوضحه ويبين مقاصد الكلام، وهو أكثر إيصالا للمعنى.
فالتنغيم له دور في الأداء الصوتي والتناسب التركيبي في بيان الدلالة، وهو قمة الظواهر الصوتية، التي تكسو المنطوق كله، وتتخلل عناصره المكونة له، وتكسبه تلوينا موسيقيا معينا، بحسب مبناه ومعناه، وبحسب مقاصده التعبيرية وفقا لسياق الحال أو المقام.
وهذا ما يفسر لنا قلة اختلاف النحويين والبلاغيين في النص القرآني، لسماعهم إياه من القراء بنبره وتنغيمه ووصله وفصله، لأن فيه صفة إيقاعية وانسجاما موسيقيا بين مقاطع الكلمات، ومن ذلك قوله تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1].
فلا اختلاف في أن الأداة "هل" تفيد التحقيق؛ لأنها بمعنى "قد" وهذا الأسلوب خبري لا إنشائي، والذي رجح هذا المعنى هو سماع هذه الآية من القراء بالتواتر، فمعرفة التنغيم أو الأداء يعين كثيرا في تحديد الأسلوب.
ومن الملفت للنظر وبخاصة لقارئ القرآن الكريم أنه يجد دقة المستوى الصوتي على مسائل كثيرة، لعل أهمها مسألة المتقابلات في الظاهرة الصوتية، ونعني بها أن في القرآن ألفاظا ترد في في نسق صوتي معين في بعض السياقات، وترد على نمط صوتي آخر، في سياق آخر أو سياقات أخرى، نحو: "يشاقّ"، و"يشاقق".