ما أردت بها إلا وجهك. كثيرٌ من الناس يسمعون الإهانات، وتأتي الإهانات من أناسٍ أقزام أقل منهم، ولكنهم كأبي ضمضم وكعمر، وسلمان وأبي عبيدة وحذيفة بن اليمان -رضي الله عنهم- أساطين الزمان، قمة الأدب لسان حالهم: "فعلتها لأجلك، عملتها لأجلك، وما أردت بها إلا وجهك". إنها لحظات نادرة في عمر الزمان؛ لأن هؤلاء الناس ما عاشوا لأنفسهم بل عاشوا لغيرهم؛ كي يُسْعِدوا العالم. إن الإنسان كلما تسطو عليه نفسه تُشْعِره بشيءٍ من التعاظم والتباهي والتكبّر من درجات علمية أو وظيفية، فإنه ينزل وينزل. علماؤُنا الكبار كلما انتهوا من كتابٍ عظيمٍ يدبجونه في آخره بهذه الكلمات، كلمات التواضع.. بعد أن عاشوا مرحلة المجد العلمي والعطاء العلمي ربما تقول له نفسه: كيف أنجزت هذه الأعمال الكبيرة؟ كيف أُعنت على هذا؟ فيقول: كتبه الفويقر أو الفقير الحقير الذليل: فلان بن فلان. هذه أجمل ساعات صدق وحب، وأجمل ساعات رحمة تمر على قلب الإنسان. لم أتعجب عندما رأيتك يا عمر تاركًا المنبر في يوم جمعة تنزل من على المنبر، وتضع رأسك على الأرض أمام الناس، فأتى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وحمل رأسه على ركبتيه، فقال له عمر رضي الله عنه: بل اتركها على التراب، ولم تكن المساجد آنذاك مفروشة لا بسجاد ولا بديباج ولا بحصير. فوضع رأسه على التراب. فقال له الصحابة رضي الله عنهم: ماذا فعلت يا أمير المؤمنين؟! تركت المنبر ونزلت ووضعت رأسك على الأرض؟ فقال: إن نفسي هاجت عليّ، فقالت لي: أنت سلطان الله تعالى في الأرض، أنت أمير المؤمنين، أنت خليفة خليفة رسول الله، أنت الذي فتح الله تعالى بك البلاد، أنت الذي نشر الله تعالى بك الرسالة، فنزلت كي أؤدبها وأقرعها، وأوقفها عند حدودها، فرجع عمر وهو عمر إلى المنبر وأكمل خطبته العصماء. هكذا نتعلم قصة وعبرة وعظة، قصص ومواعظ كنا ولا زلنا في حاجةٍ إليها، وفي كل درس أروي الأرض العطشى بأخبار الصالحين. وفي كل درس أهيج الأشواق بأخبار العارفين بالله تعالى، وفي كل درس آخذكم في رحلة إيمانية مع السلف الصالح، ومع الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.