ماذا يعنى لفظ ((جمع القرآن وكتابته))؟ أعزكم الله، وأحبكم، ونفع بكم لفظ (جمع القرآن) تارة يقصد به حفظه في الصدور، وتارة يقصد به كتابته في الأشياء التي يمكن الكتابة فيها، أما جمع القرآن بمعنى حفظه واستظهاره في القلوب فقد كان المقصد الأعظم للرسول ولأصحابه فقد كان ينزل عليه القرآن مفرقاً على حسب الحوادث والنوازل فيتلقاه بشوق وشدة اهتمام لدرجة أنه كان أحيانا يحاول أن يسبق جبريل في النطق قبل أن ينتهي جبريل من النطق بها، يفعل ذلك استعجالاً لحفظ القرآن وجمعه في قلبه، ومخافة من أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف واستمر على ذلك إلى أن طمأنه خالقه عز وجل بأنه سيجمع له القرآن في قلبه ونهاه عن تعجيل القراءة قبل أن ينتهي جبريل من قراءته عليه، فقال تعالي: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 16- 18 ) أي لا تحرك أيها الرسولُ الكريمُ لسانك بقراءة القرآن قبل أن ينتهي جبريل من قراءته عليك، فإننا بفضلنا ورحمتنا قد تعهدنا بجمع القرآن في قلبك، وبقراءة جبريل للقرآن عليك، فإذا قرأه جبريل عليك فاتبع قراءته، ونحن علينا أن نوضح لك ما خفي عليك منه. أما أصحابه فقد كان حفظ القرآن هو محل اهتمامهم الأول، ولم يشغلهم عن حفظه مال أو ولد بل كانوا يتنافسون في حفظه في قلوبهم، ويتسابقون إلى مدارسته وفهمه، ويتفاضلون فيما بينهم على قدر ما يحفظون منه، وكان رسول الله ـ ـ يشجعهم على ذلك تشجيعاً لا مزيد عليه، ومن ذلك قوله صلى اله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه" وقد ترتب على هذا الحب الشديد لحفظ القرآن الكريم أن كثر عدد الحفاظ في العهد النبوي، وحفظ القرآن الكريم ـ بمعنى حفظه في الصدور ـ لم يمنع الصحابة من كتابته بمقدار ما سمحت به وسائل الكتابة وأدواتها في عصرهم، وقد تمت كتابة القرآن الكريم في ثلاثة عهود: العهد الأول: كان في حياة الرسول . العهد الثاني: في خلافة أبي بكر الصديق حينما جاء عمر بن الخطاب إلى أبي بكر الصديق وقال له : إن القتل قد اشتد في حفظة القرآن الكريم وإني أقترح عليك أن نكتب القرآن الكريم صيانة له بعد أن قتل هذا العدد الكبير من القراء، والذي كلف بهذا العمل الجليل هو الصحابي "زيد بن ثابت" العهد الثالث: في خلافة عثمان بن عفان وفي هذا العصر اتسعت الفتوحات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها وتفرق الصحابة في الأمصار والأقطار، وكان كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذ بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، وقد اختلفت اللهجات بعض الشيء بسبب اختلاف لغة ولهجة كل قطر، وبدأ بعض الحفاظ يخطئ بعضهم بعضاً، وكادت تحدث فتنه بين المسلمين. فما كان من عثمان إلا أن جمع كبار الصحابة، وتشاور معهم في الأمر، فأجمعوا على كتابة مصحف إمام بلغة قريش، وبعد ذلك تم إرسال مصحف إلى مصر وآخر إلى العراق وثالثاً إلى الشام ثم أمر عثمان القراء أن يحفظوا الناس القرآن بالطريقة التي كتب بها المصحف الإمام.