رحلة الراشد (60) الوقت والمسؤولية لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض الداعية والمفكر الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم رحلتنا اليومية مع الخليفة الراشد عمر بن العزيز رضي الله عنه وصلت إلى المحطة الستين بفضل الله تبارك وتعالى، وعنوان هذه المحطة الوقت والمسؤولية المسؤولية كبيرة على عمر وعلى غيره، لكن الذين يحكمون البلاد والعباد عليهم مسؤوليات جسام الفترة التي يقضيها الحاكم في الحكم إما ان تكون له أو عليه ليس هناك مرتبة وسطى، له أو عليه فانظر هذا الوقت كيف يستثمر؟ كيف ينتفع به؟ كيف يكون أداة لتغيير نفوس الناس تماما؟ الخروج من حالة إلى حالة، ربما عاش قبله في الحكم كثيرون مدة أطول من المدة العمرية ولكن لم يقدموا إصلاحات للناس وكان همهم أنفسهم اتسمت دولة بني أمية في بدايتها أنها دولة سلطوية مركزية تقلد فارس والروم في أمور الزينة والزخارف وهكذا لأنهم كانوا يعتقدون أن زوار الدولة من الروم والفرس إذا شاهدوا الدولة في عظمتها وفي زينتها فإنهم يعطونها الخوف والحذر والهيبة، كان هذا اعتقادهم حتى لما سأل معاوية لماذا تعيش في هذا الترف الشديد بينما علي ينام على الأرض؟ فمعاوية صحابي: قال نحن يأتينا الروم كل يوم ولابد أن يشاهدوا حضارة الإسلام، فسيدنا معاوية يدافع عن جانب البغددة والرغددة والترف التي سادت في حياة بني أمية ولابد أن تكون على يقين وأنا أتكلم اليوم عن مسألة الوقت أن الفترة التي قضاها الخليفة الراشد حاكما لبلاد الإسلام سنتان وخمسة أشهر من أقصد وأقوى وأبرك وأطهر فترة في تاريخ الإسلام بعد فترة الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا لم يأت أحد لكي يكرر هذه الإصلاحات العمرية التي لم يفعلها في سنوات عشر أو سنوات عشرين بل في سنتين وخمسة أشهر ربما حسب الأستاذ العقاد في كتابه الجميل عبقرية الراشد حسب العقاد الأيام التي قضاها عمر في الخلافة فإذا بكل يوم يساوي ألف سنة يعني إنجاز لم يسبق في تاريخ العالم نحن على يقين تام أن الحاكم إذا كان مسددا وكان مؤيدًا جاءته العناية الإلهية بما يسمى العون الإلهي كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا، والذين يتأملون الإنعامات في حياة الخليفة الراشد يلاحظون أنه في أول الخلافة جعل النهار لهم للناس وجعل بابه مفتوحا دون حاجب أو حارس وليلا يفرغه لربه للبكاء للقيام للزلزلة التي تعرفونها، ومعه بيت مسلم صالح ومعه زوجة مسلمة نادرة الوجود ومعه أولاد صالحون فلما استغرق في الحكم وحدث نظام الدولة بدأ البريد يأتي إليه بمشاكل الأمة فكان بعد صلاة العشاء يتفرغ للعبادة الآن يجلس لقضاء مصالح المسلمين ويأتي بمجلس الدولة وربما يستمر إلى آخر الليل ثم يقيم الليل ثم يصلي الفجر ثم يجلس يقرأ ويتعبد بعد الفجر، متى نام؟ ثم يواصل في اليوم التالي مما جعله نحيفًا من كثرة السهر والخدمة للأمة وقلة الزاد الذي قنع به نفسه وكثرة المهام العقلية، العقل شغال شغال شغال، والدقيقة عنده تساوي يومًا عند غيره وكان عمر بن عبد العزيز يقضي وقته كله في تسيير مصالح العباد، هذا ما يقوله الإمام الحافظ بن كثير، وكان يقضي ليلته في الصلاة والمناجاة، ابن الجوزي الإمام الكبير يقول في سيرة عمر: وكان لا يكلم أحدا بعد أن يوتر ونقل ابن الجوزي عنه أنه قال: إن الليل والنهار يعملان فيك في الإنسان وكان يغتنم الوقت في الأعمال الصالحة هو لم يعرف أنه أجل أو أخر موضوعًا لمسلم أبدا أو أخر بريدا للغد مما جعل الوقت مليئا بأعمال جسام لم ينهض بها في التاريخ إلا عمر بن عبد العزيز يوم أن توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك ودفنوه ضحى جاء عمر بن العزيز وجلس مسندًا ظهره إلى سارية في المسجد، كما سأفعل الآن، فجاء إليه ابنه عبد الملك، عبد الملك كان شابا صالحا، قال له لماذا تجلس هكذا يا أبي؟ قال أصلي الظهر، ثم أقضي بين المسلمين وأنصف المظلومين فقال له هل لك أن تحيا إلى الظهر؟ أنت عندك ميثاق من الله أنت ضامن أن تحيا إلى الظهر؟ فنهض واستغل هذا الوقت من الضحى إلى صلاة الظهر في قضاء مصالح الناس، وتولي مهام الحكم وتنظيف بيت الخلافة من كل أثار الجاهلية، وهذه القصة حتى ذكرها الآن ابن الجوزي لما دفن سليمان إلى آخر القصة دعا عمر بدواة وقرطاس فكتب ثلاثة كتب في نفس الساعة التي دفن فيها سليمان بن عبد الملك كتب ثلاثة كتب وأرسلها للأمراء فقيل له لم هذه العجلة؟ ولو أخر شيئًا أيها السادة الكرام الأكارم، ولم يحدث والله، ولو أخر شيئًا لحاسب نفسه حسابا شديدا عظيما جدا في نفس اليوم الذي تولى فيه الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك ألهمه الله تعالى باتخاذ قرارات سريعة عاجلة وأمضاها ووزعها عبر البريد الذي أعده إلى كل الولايات الإسلامية التي أصبح الآن حاكما عليها ومشرفًا عليها ومسؤولا عنها مسؤولية كاملة ويتعجب الكتاب والمؤرخون من هذه العقلية، أن كل أمر صغير يبدو أنه ليس له قيمة ينال منه اهتماما كبيرا كبير كبيرا نفس اليوم الذي تولى فيه الحكم أصدر فيه القرارات: عزل أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر يعني كان وزير المالية فعزله في نفس اليوم اللي تولى فيه الخلافة، وتسلطه، وأمر بعزل يزيد بن أبي مسلم عن أفريقيا لظلمه وتشدده مع الناس والبربر يعني لم ينتظر يوما أو يومين أو يعقد مجلس الدولة أو مجلس الشورى أو مجلس الحل والعقد متى يختار الحاكم التوجيهات المناسبة التي يتكلم فيها مع الناس؟ هل الراي العام ده مستعد لتقبل كلامه أم لا؟ وإذا تكلم راعى البلاغة وأوجز وإذا تكلم راعى الناس على قدر عقولهم، وفي موسم الحج طبعا هو أتى عليه موسمان أراد أن يخرج لكي يحج اسمع من هذه رئيس الدولة يريد أن يحج فلم يجد المال الذي يحج به من ماله الخاص في يوم الحج الأكبر يفكر كيف يصل للناس وكيف يتواصل مع الناس وفد الرحمن وضيوف الرحمن وكيف يخدم عليهم رغم أنه لم يحج في هذا العام؟ فكتب خطابًا إلى أمير الحج وطلب إليه أن يقرأ الخطاب على الناس: أما بعد فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام يوم الحج الأكبر، إني برئ من ظلم من ظلمكم الخطاب هنا ليس لقرية ولا نجع ولا مدينة دا كل الحجاج حاضرون ويخاطبهم بهذا التبرأ بيتبرأ فإني أشهد الله وأتبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم الحج الأكبر أني بريء من ظلم ظلمكم وعدوان من اعتدى عليكم أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو تعمدته إلا أن يكون وهما مني أو أمرًا لم أتعهده إلى آخر هذا الكلام الذي يوضح مدى حرصه على إقامة العدل، ألا وإن أي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب وبالسنة فلا طاعة له عليكم وقد سيرت أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم، إلى آخر الكلام الجميل الذي ختم بقوله رحم الله امرئ لم يتعاظمه سفر يجيء به الله حقا لمن وراءه ولولا أني أشغلكم عن مناسككم لذكرت لكم أمور كثيرة أحيا الله بها العدل وأمات الله بها الباطل وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمد غيره ولو وكلني إلى نفسي كنت كغيري هنا ملمح جميل جدا، يقول للحجاج إن أي عامل من عمالي، يعني أي موظف أو محافظ يسير بكتاب الله وسنة ورسوله أمره مفوض إليكم افعلوا به ما تشاؤون هذا هو الحكم اللامركزي ثم يقول فعلت كثير في خدمة الإسلام فقد أحيا الله بي الحق وأمات الله بي الباطل ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لذكرت الشيء الكثير في هذا ولا تحمدوا أحدًا إلا الله ولولا أن الله أعانني لكنت كغيري الإنسان ليس بشطارته ولا بعقليته ولا بذكائه ينجح وينجح غيره الإنسان إذا كان معانا يعني عند إعانة ربانية هو الذي يسدد ربما ذكاء الإنسان يخونه ولا ينفعه وربما ذكاؤه يؤدي به إلى التهلكة الإعانة التي لقيتها الخليفة الراشد من سبحانه وتعالى هي التي قال فيها ولا تحمدوا غير الله يعني أنا عملت بكل قوتي ولكن ليس لي فضل عليكم الفضل من الله هو الذي أعانني ولو لم يعينني لكنت من الحكام الذين سبقوني ولم يلمح على هذا كثيرًا حتى لا يقلب الجراح على الناس طبعا ذكاء في الكلام وذكاء في الخطابة وذكاء في التواصل مع الحجيج بصورة أكدها أي ظلم يقع في الدولة أنا بريء منه تماما ولو تبين أن محافظا ظالما أو عاملا ظالما أو وزيرا ظالما فلا له عليكم وافعلوا به ما تشاؤون يعني انقلبوا عليه فإنه ذميم وكان يقول كلمة عجيبة هزت مسامع الزمان لا يعاب على من فر من الحاكم الظالم هذه نظرية شرعية جميلة جدا في تحميل الحاكم المسلم المسؤولية العمرية التي اتحدث عنها الآن في تهيئة الحياة الكريمة للناس على الأقل عندنا تكافل اجتماعي عندنا التكاتف الاجتماعي عندنا الجسد الواحد أنا سمعت إن الحجاج بن يوسف الثقفي بالسياسة الظالمة القاتلة التي قتل بها خمسين الفا وأجبر من أسلم على دفع فدية للإسلام فضاعف عليه الفدية لكي يكبر خزينة بيت المال، كبرها فلما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بالعدل بالحق بعدم الظلم جعل خزينة العراق أضعاف أضعاف ما كان أيام الحجاج مع العلم أنه زوج جميع بنات العراق مجانا عندما تولى وكتب بهذا كتب إلى الأمراء، وكل شاب لا يقدر على الزواج زوجه من خزينة بيت المال ولم تنقص وفعل أشياء لم تأت على ذهن أحد مما يعني إن الوقت بالنسبة له ودرس اليوم عن الوقت الوقت بالنسبة له كان يحمل مسئولية جدا جدا جعله يقضي كل مظاهر الظلم بصراحة التي كانت موجودة قبله، حتى دخل عليه رجل كان صديقا له العمر كله يقال صديق العمر وكان سليمان بن عبد الملك الخليفة السابق كتب له إذنا أن يأخذ من بيت المال ثلاثين ألف دينار مبلغ كبير ثروة ووقع له سليمان وأخذ الرجل في إجراءات صرف المبلغ حتى وصل إلى بيت المال سيصرفه فمات سليمان فلم يصرف الثلاثين ألفا، فأتى إلى عمر بن عبد العزيز متصورا أن الصداقة التي بينهما ستجعل عمرا يمضي له على الورقة لكي يصرف ثلاثين ألف فامتنع قال له هل لك حق فيها؟ فسكت هل لك حق فيها؟ فسكت، هل تستحلها؟ فسكت، فقال: لا أوقع لك ولكن المفاجأة المفجعة المخزية... اسمع.. أنه لما مات وتولى الخلافة يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك الورقة التي رفض عمر صرفها بثلاثين ألف دينار مجاملة يوم أن مات عمر صرفت كأن هؤلاء الظالمين سلمكم الله لهم مخالب في كل مكان يصلون إليه. الوقت في حياة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالي عنه أنه يقرأ جميع الرسائل وفي قصة مؤثرة أنا تأثرت بيها جدا جاءته رسالة من سيدة فقيرة ضعيفة من مصر رسالة البريد ين وهو اللي أحيا البريد يعني جاءته رسالة تقول أنا امرأة فقيرة وأربي دجاجات أعيش بها ولكن بيتي منخفض وليس عندي سور يحمي البيت مما يجعل اللصوص يدخلون ويسرقون الدجاج لم يمصمص عمر في شفتيه فرد بنفسه فكتب ورقة من أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل أمير مصر إذا جاءتك رسالتي هذه فاذهب إلى السيدة فلانة في ناحية الجيزة الزمالك حاليا وعل لها بيتها وعلي لها سورها حتى لا يقفز عليه اللصوص واكتب لي تقريرا بهذا أيوب ابن شرحبيل بنفسه المحافظ وبنى لها بنفسه وأرسل في نفس اليوم خطابا إلى الخليفة الراشد يطمئنه أن تعليماته قد وصلت إلى عنان السماء. درس اليوم كان فيه جزءان الوقت والمسؤولية ولكن لم يتسع إلا أن أتكلم عن الوقت الأول الوقت أما المسؤولية فسنتكلم عنها في درس قادم إن عمر بن عبد العزيز وأمثاله من الحكام الصالحين القليلين ينطبق عليه قوله جل جلاله "إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)" المؤمنون