دقة تعبير القرآن

 دقة تعبير القرآن

من تمام الأسلوب القرآني دقته في اختيار الألفاظ، ودلالتها على المعاني، وقد أشار الجاحظ إلى أن دقة المدخل مما يظهر المعنى، وهو من البيان الذي امتدحه الله تعالى، وتكمن دقة أسلوب القرآن الكريم من حيث إحاطة الله تعالى باللفظة الأحقّ بهذ المقام.

وقد بيَّن الخطابي عدم قدرة إتيان البشر بمثل هذا الأسلوب لأمور منها:

أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على الألفاظ.

ودقة تعبير القرآن تتجلى في أمرين:

الأول: دقة الألفاظ:

فكل لفظ في القرآن الكريم في مكانه له دلالته الذي لا يؤدى إلا به، وتتبع ذلك باب من أبواب البيان تفرد به القرآن.

يقول ابن الأثير في دقة اختيار الألفاظ القرآنية: "ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد؛ إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه تلك، بل يفرق بينهما في مواضع السبك، وهذا لا يدركه إلا من دق فهمه، وجل نظره"، ثم قال: "ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ} [النجم: 11]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة، وإن كانا مختلفين في الوزن، ولم يستعمل القرآن أحدهما في موضع الآخر.


الثاني: الدقة في التركيب:

يقول الرافعي: "لا جرم أن المعنى الواحد يعبر عنه بألفاظ لا يجري واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد شرط الفصاحة؛ لأن لكل لفظ صوتًا ربما أشبه موقعه من الكلام، ومن طبيعة المعنى الذي هو فيه، والذي تُساق له الجملة، وربما اختلف وكان بغير ذلك أشبه".

ومن الدقة في التركيب، الدقة في ترتيب الألفاظ والجمل في الآية للدلالة على المعنى المراد، وتساوي ألفاظها في الجزالة، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا} [يوسف: 85ٍ]، "فقد أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء، فإنها أقل استعمالًا، وأبعدُ من أفهام العامة بالنسبة إلى الواو والباء، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، فإن "تزال" أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالًا منها، وأتى بأغرب ألفاظ الهلاك وهو "الحرض" فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة توخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم".

ومن الأمثلة كذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133]، تضمنت الآية خمسة ألفاظ: {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ}، وأحسن هذه الخمسة هي: الطوفان والجراد والدم، فلما وردت هذه الألفاظ قدم منها الطوفان والجراد، وأخر لفظة الدم، وجعلت لفظتا: "القمل والضفادع" في الوسط، ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، ثم إن لفظة "الدم" أحسن من لفظتي: " الطوفان والجراد "، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جيء بها آخرا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية.

ومن الدقة في التركيب ما يجعل اللفظ في موضع مستحسنا رائقا، ويكون في موضع آخر على خلاف ما وجدت من الاستحسان، ومن الأمثلة على ذلك: لفظة "تؤذي" فقد جاءت في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة متينة، وفي الشعر ركيكية ضعيفة، فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين.

فقوله تعالى: {إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 58]، جاءت "يؤذي" مضافة إلى "النبي"، أما في الشعر فقد جاءت مفردة دون إضافة في هذا البيت:

تَلَذّ لهُ المُروءَةُ وهيَ تُؤذي      ومَنْ يَعشَقْ يَلَذّ لهُ الغَرامُ

وقد أماط اللثام عن دقة التعبير القرآني لهذه اللفظة ابن الأثير حين قال: "وهذه اللفظة إذا جاءت في الكلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به كقوله تعالى: {إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53]،  وقد جاءت في قول المتنبي منقطعة، ألا ترى أنه قال: ومَنْ يَعشَقْ يَلَذّ لهُ الغَرامُ فجاء بكلام مستأنف، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي، وأضيف إليها كاف الخطاب فأزال ما بها من الضعف والركاكة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم اشتكى، فجاءه جبريل عليه السلام ورقاه، فقال: " بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ"


تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض