الشهيد
اسم من أسماء الله – تعالى -، ومعناه أنه – تعالى – عالم بجميع الأمور علمًا
يقينًا، فهو الرقيب عليكم، المطلع على أفعالكم، السامع لأقوالكم، لا تخفى عليه
خافية، فهو عالم بكل شيء في ملكه، وهو على كل شيء شهيد، وهو الأمين في شهادته على
خلقه، فهو الشاهد والشهيد بيده مقاليد الأمور، وعلى الأفعال شهيد .
قال – تعالى -: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}[المجادلة:6].
يختص هذا الاسم بعدة خصائص:
الأولى: أن الشهيد يرجع معناه إلى العليم مع خصوص إضافة، فإنه تعالى عالم
الغيب والشهادة، والغيب عبارة عما بطن، والشهادة عما ظهر، وهو الذي يشاهد فإذا
اعتبر العلم مطلقًا فهو العليم، وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا
أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم
القيامة بما علم وشاهد منهم .
الثانية: أن الشهيد هو المطلع على ما لا يعلمه المخلوقون إلا بالشهود وهو
الحضور، ومعنى ذلك أنه وإن كان لا يوصف بالحضور الذي هو المجاورة أو المقاربة في
المكان، فإن ما يجري يكون من خلقه لا يخفى عليه كما يخفى على البعيد النائي عن
القوم ما يكون منهم، وذلك أن التأني إنما يؤتى من قبل قصور ونقص جارحته والله
تعالى جل ثناؤه ليس بذي آلة ولا جارحة فيدخل عليه فيهما ما يدخل على المحتاج
إليهما .
الثالثة: أن الشهيد هو الله نور القلوب بمشاهدته، والأسرار بمعرفته، وهو أعز
جليس، ولا يحتاج معه إلى أنيس .
انعكاسات وتجليات الاسم على حياة المسلم:
اعلم أخي المسلم أنه إذا ذكرت اسم الله – تعالى – الشهيد وآمنت به حق
الإيمان فإنه يتحقق لك عدة فوائد:
الأولى: يكون المسلم دائمًا على يقين بأن ربه هو الشهيد عليه، فلا يغيب عنه
شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئًا، وأنه تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد يوم
القيامة، فينبئهم بما عملوا من خير أو شر.
قال – تعالى -: {يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ
وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}[المجادلة:6].
وقال – تعالى -: {سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيد}[فُصِّلَت:53].
الثانية: يكون المسلم دائمًا على يقين بأن ربه يراه ويسمعه، ويعلم بجميع
أحواله كبيرها وصغيرها، فيلتزم بمنهجه القويم .
قال
– تعالى -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ
وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي
السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ
مُّبِين}[يونس:61].
وقال – سبحانه -: {وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ
مُّبِين}[الأنعام:59].
الثالثة: من يؤمن بالله شهيدًا فإنه يغض بصره ؛ لأن الله شهيد عليه فينزل
عليه عقوبته:
قال – تعالى -: {قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}[النور:30- 31].
وقال
– تعالى -: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ
كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاع * يَعْلَمُ
خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور}[غافر:18- 19]
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أدوا حقَّ المجالس: اذكروا الله
كثيرًا وأرشدوا السبيل وغُضوا الأبصار» ([1]).
وفي غض البصر عدة منافع :
أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه
ومعاده،
وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى، وما
سعد من
سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا
والآخرة
إلا بتضييع أوامره .
الثانية: أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذى لعل فيه
هلاكه
إلى قلبه
.
الثالثة: أنه يورث القلب أنسا بالله، وجمعية على الله، فإن
إطلاق
البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله، وليس على العبد شيء أضر من إطلاق
البصر،
فانه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه
ويحزنه .
الخامسة: أنه يكسب القلب نورا، كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه
آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30 ] ثم قال إثر ذلك: {اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن
الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من
كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت
من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب
الشقاوة، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي
صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
السادسة: أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق
والمبطل
والصادق والكاذب، ... والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس
عمله، ومن
ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه
الله
بأن يطلق نور بصيرته، عوضة عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان
والمعرفة
والفراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تنال ببصيرة القلب، وضد هذا ما وصف
الله
به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72
]
السابعة: أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة، ويجمع الله له بين
سلطان
البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، كما في الأثر: « الذي يخالف هواه يفر
الشيطان
من ظله » ومثل هذا تجده في المتبع هواه من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها
وخستها
وحقارتها، ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه، كما قال الحسن: « إنهم وإن
طقطقت
بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن المعصية لا تفارق رقابهم، أبى الله
إلا أن
يذل من عصاه» .
وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته، والذل قرين معصيته، فقال
تعالى:
{ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [
المنافقون:8]،
وقال تعالى: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، والإيمان
قول وعمل، ظاهر وباطن، وقال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ
فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]،
أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره، من الكلم الطيب والعمل الصالح، وفي
دعاء القنوت: « إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت » ومن أطاع الله فقد
والاه
فيما أطاعه فيه، وله من العز بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله
من الذل بحسب معصيته .
الثامن: أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب، فإنه يدخل مع
النظرة،
وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي، فيمثل له
صورة
المنظور إليه، ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب، ثم يَعِدُهُ
ويُمَنِّيه،
ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن
يتوصل
إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس
التي
يجد فيها وهج النار، وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به النيران
بكل
جانب، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، لهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات
بالصور
المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنورٌ من نار .
التاسع: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر يشتت
عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في
اتباع
هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا
قَلْبَهُ
عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28 ].
العاشر: أن بين العين والقلب منفذا أو طريقا يوجب اشتغال أحدهما
عن
الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد
النظر
فسد القلب، وكذلك في جانب الصلاح.
الرابعة: من يؤمن بأن الله شهيد عليه فإنه يبتعد عن
فعل المنكرات، فيحفظ لسانه عن الغيبة :
قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ
تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ رَّحِيم}[الحُجُرات:12].
ويصدق
لسانه: قال – تعالى -: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُون}[الأنعام:152].
ويعلم
نعمة الله عليه لكيللا يعجب بنفسه، قال – تعالى -: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ
أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين}[الحُجُرات:17].
ولا
يطلب لنفسه العلو والكبر، قال – تعالى -: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِين}[القصص:83].