الرحيم
الرحيم اسم من أسماء الله – تعالى – الحسنى، وهو
اسم مشتق من الرحمة، ومعنى الرحمة هو تخليص من رحمهم الله من الضر، والضلال،
والإنعام عليهم بالهدى، والمغفرة، والإيمان، والرحيم معناه: المنعم بدقائق النعم
مثل الضروريات للإنسان، والكماليات للوجود .
والرحمة تقتضي
الإحسان إلى المرحوم حيث قال – تعالى - {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43].
والله يقسم رحمته كيف يشاء، ويدخل في
رحمته من يشاء، والرحمة من الله إنعام، وإفضال، ونحن لا نكاد نرى آثار رحمة الله
لكثرتها، ذلك بأن نعم الله لا تحصى، ولكننا نحس
بها إن أمسك الله بعض رحمته، ونشعر وكأنها تنزع نزعًا قال – تعالى -: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ
كَفُور}[هود:9].
ومن المبشرات أن اسمه تعالى الرحيم ذكر مقارنًا لاسمه تعالى الغفور ثلاثًا
وسبعين مرة، وورد مع اسمه تعالى التواب تسع مرات، وورد مع اسمه الرؤوف ثماني مرات،
ومع اسمه الرحمن أربع مرات غير ما ذكر في البسملة، ومع اسمه الودود مرة، ومع اسمه
البر مرة، ومع اسمه الرب مرة .
ولقد كتب الله تعالى على نفسه الرحمة،
وأرسل نبي الرحمة محمدًا – صلى الله عليه وسلم – شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وجعل
طاعته سببًا في تحصيل الرحمة التي هي سعادة الآخرة، وجعل المولى – سبحانه وتعالى –
نصيب الأتقى منها أكبر، فقال – تعالى -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون}[الأعراف:156].
كما جعل تعالى الرحمة قريب من المحسنين،
فقال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ
خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ
الْمُحْسِنِين}[الأعراف:56].
والرحيم من صفات الرحمن، ويجوز أن يفيض
الله على عبده بنصيب من الرحمة ؛ فيكون رحيمًا بإذن الله، وأكثر عباد الله نصيبًا
من هذه الرحمة هو سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول المولى عز وجل: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107].
ويقول – تعالى -: {لَقَدْ جَاءكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم}[التوبة:128].
فقد جمله الله تعالى باسمين من أسمائه الحسنى ؛ ليدل الخلق على دليل عطائه،
وكيف لا، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرحم المنافقين، ويبكي أسفًا
على ضياعهم، ويرحم الكافرين، ويدعو بالهدى مع الرغم أنهم كانوا يوجهون له الأذى .
ولقد سجل القرآن الكريم لهذا الاسم آيات عظيمة، ومواقف جليلة، منها:
الأولى: مدح المولى – عز وجل – أقوامًا
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا}[الإنسان:8].
الثانية: مدح نفسه ؛ فقال: {وَقُل
رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِين}[المؤمنون:118].
وقال: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ
إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}[يوسف:64].
ولقد سجلت السنة النبوية الشريفة لهذا الاسم نورانيات عظيمة، ومواقف جليلة
منها:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم حسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: إن
لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
قال: «من لا يرحم لا يرحم»
فكن رحيماً لنفسك ولغيرك ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير
بمالك،
والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك
ورفع
غضبك، فأقرب الناس من رحمة اللّه أرحمهم لخلقه، فكل ما يفعله من خير
دق أو
جل فهو صادر عن صفة الرحمة.
وتأييداً لهذا فإن الله - عز وجل - يؤكد هذا المفهوم وهذه القيمة العظيمة في
نفوس المسلمين حيث تكرر مفهوم الرحمة في القرآن الكريم؛ في أول كل سورة من سور
القرآن الكريم، وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم، هذا التأكيد من شأنه أن يجعل
قيمة الرحمة حاضره باستمرار في وعي الناس حتى يكون التعامل فيما بينهم قائماً على
هذا الأساس، فإن الله هو الرحمن الرحيم، ورحمته وسعت كل شيء.
وقال ابن القيم: "ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه، وقد جاء في الأثر: "إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه"، فهذا من تمام رحمته به لا من بخله عليه، كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها، ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان لهما ضدان: الضلال والغضب
وقد جاء في الأثر: إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه، يقول الله – سبحانه
-: كيف أرحمه من شيء به أرحمه ؟ وفي أثر آخر: إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا
وطيباتها، وشهواتها، كما يحمي أحدكم مريضه .
فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه، كيف؟ وهو الجواد الماجد الذي له
الجود كله وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها.
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية،
لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد، ولا بخلًا منه عليهم بما
نهاهم عنه فهو الجواد الكريم.
ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها؛ لئلا يسكنوا إليها ولا
يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط
الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه؛ لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن
معاملته به، كما قال تعالى: {ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد} قال
غير واحد من أهل العلم: من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه؛ لئلا يغتروا به.
والرحمة هي ثواب من الله للمؤمنين قال - تعالى -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، وإذا
علمنا هذا فإن الله ندب المؤمنين إلى طلب الرحمة فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ
مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} كل هذه النصوص وغيرها لكي يتصف العبد بهذه الصفة؛ فإن الله
قد وصف المؤمنين بأنهم يوصي بعضهم بعضاً بالرحمة فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
والتواصي بالمرحمة هو أمر زائد على المرحمة، فإنه إشاعة الشعور بواجب
التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجباً جماعيًّا
فرديًّا في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع.
إن الرحمة ليست مجرد تعاليم نظرية، أو تطلعات فلسفية، أو كما يقال حبراً على
ورق، بل هو أمر ظاهر من حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم، وشأنها كشأن سائر
خصاله وأخلاقه التي ترجمها إلى منهج حياة عملية، وواقع حي عاشه المسلمون في العهود
الإسلامية العريقة، فرحمة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة تطبيقية يمارسها
في حياته اليومية كما تقول عائشة - رضي الله عنها - عندما سئلت عن خُلُقِهِ فقالت:
"كان خلقه القرآن"، فقد خرج من تعاليم القرآن المكتوبة إلى واقع الحياة
بتطبيق هذه التعاليم، وممارستها سلوكاً عملياً".
إضافة إلى هذا فإن الله - سبحانه وتعالى - قد فتح باب الرحمة للعائدين إليه،
ووعد بمغفرة ذنوبهم إذا أرادوا الرجوع إليه: «وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ
هَرْوَلَةً» كما وعد - سبحانه - بأن يبدل السيئات إلى حسنات لمن تاب وحسنت توبته،
بل إن المسرفين على أنفسهم جعل الله لهم أملاً عظيماً فيه بأنه يغفر الذنوب جميعاً
كما قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وكذلك فإن الله - تعالى - يفرح بتوبة العبد
فرحاً لو فرح العبد جزءاً منه لأصابه الذهول، ولم يدر ما يقول، فماذا يريد العاصي
من ربه بعد ذلك؟
ما عليه إلا أن يلج هذا الباب العظيم، ويدخل في سعة رحمة ربه - جل وعلا،
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن تشملهم رحمته.