الحكم
هو اسم من أسماء الله تعالى الحسنى، ومعناه أن الله تعالى هو صاحب الفصل بين الحق والباطل، والبار والفاجر، والمجازي كل نفس بما عملت، وهو الحاكم الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو الذي يحكم ويفصل بين الناس فيما شجر بينهم، ولا راد لحكمه .
وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلنا على أن الحكم هو الذي يحكم وحكمه نافذ قال تعالى : {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِين}[الأنعام:62].
واسم الله الحكم ورد في السنة النبوية مطلقًا معرفًا مسندًا إليه المعنى محمولًا عليه مرادا به العلمية، ودالًّا على كمال الوصفية، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ رضي الله عنه: «أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ؛ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ أَتَوْنِي؛ فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ؛ فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللهِ، قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ».
ويختص هذا الاسم بعدة خواص:
الأولى: أن الحكم هو الذي إليه الحكم:
فالحكم سبحانه هو الذي يحكم في خلقه كما أراد، إما إلزاما لا يرد وإما تكليفًا وابتلاء للعباد، فحكمه في خلقه نوعان:
أولا: حكم يتعلق بالتدبير الكوني، وهو واقع لا محالة؛ لأنه يتعلق بالمشيئة، ومشيئة الله لا تكون إلا بالمعنى الكوني، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن ثم لا راد لقضائه لا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، ومن هذا الحكم ما ورد في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، وكذلك قوله: { قَال رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك .
ثانيا: حكم يتعلق بالتدبير الشرعي وهو حكم تكليفي ديني يترتب عليه ثواب وعقاب وموقف المكلفين يوم الحساب، ومثاله ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلتْ لكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلى عَليْكُمْ غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]، ومثال الحكم الشرعي أيضا قوله تعالى: { وَمَا اخْتَلفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللهِ} [الشورى:10]، وقوله: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَمَا أُولئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] .
قال القرطبي: « فالحَكَم من له الحكم وهو تنفيذ القضايا وإمضاء الأوامر والنواهي وذلك بالحقيقة هو الله تعالى، فهذا الاسم يرجع تارة إلى معنى الإرادة، وتارة إلى معنى الكلام، وتارة إلى الفعل، فأما رجوعه إلى الإرادة فإن الله تعالى حكم في الأزل بما اقتضته إرادته ونفذ القضاء في اللوح المحفوظ، يجري القلم فيه على وفاق حكم الله، ثم جرت الأقدار في الوجود بالخير والشر والعرف والنكر على وفاق القضاء والحكم، وإذا كان راجعًا إلى معنى الكلام؛ فيكون معناه المبين لعباده في كتابه ما يطالبهم به من أحكامه كما يقال لمن يبين للناس الأحكام، وينهج لهم معاني الحلال والحرام حكم، وعلى هذا فلا يكون في الوجود حكم إلا كتابه، فعنده يوقف إذ هو الحكم العدل، وإذا كان راجعًا إلى الفعل؛ فيكون معناه الحكم الذي ينفذ أحكامه في عباده بإشقائه إياهم وإسعاده وتقريبه إياهم وإبعاده على وفق مراده » .
الثانية: أن الحكم صفة ذات، لا يقع في وعده ريب، ولا فعله عيب، وهو الذي حكم على القلوب بالرضا والقناعة وعلى النفوس بالانقياد والطاعة:
فاسم الله الحكم يدل على ذات الله، وعلى وصف الحكم بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ لِلهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} [غافر:12]، وقال تعالى: {قَالَ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ} [غافر:48]، وقال تعالى: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]، وقال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [يونس:109] .
وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن حنيف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (( فَعَلَى مَا نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ)) ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلاَّ أُحْمِىَ عَلَيْهِ في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)).
والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والأولية والآخرية والسمع والبصر والعلم والقدرة والعزة والعظمة والغنى والقوة والعدل والحكمة والإحاطة والخبرة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الحكم دل على صفة من صفات الأفعال .
الثالثة: أن الحكم هو الحاكم الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ومرجعه إلى القول الفاصل بين الحق والباطل، والبر والفاجر، المبين لكل نفس جزاء ما عملت من خير وشر .
انعكاسات وتجليات الاسم على حياة المسلم:
اعلم أخي المسلم أنه إذا ذكرت اسم الله تعالى الحكم وآمنت به حق الإيمان فإنه يتحقق لك عدة فوائد:
الأولى: يدفع المسلم إلى الصلاة والمسئولية ليس عن نفسه فقط، بل لا بد أن يمد بصره إلى جماعة المسلمين من حوله، ويتعاون معهم ويتعاطف ويتراحم، ويرشدهم إلى طريق الخير والصلاح .
الثانية: يدفع المسلم إلى التمسك بكظم الغيظ:
فكظم الغيظ والتحكم في الغضب والتصرف تبعاً لما يرضي الله ورسوله، فضيلة يتميز بها عباد الله الصالحون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابًا يسيرًا، وأدخله الجنة برحمته قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: تعطني من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك قال: فإذا فعلت ذلك فما لي يا رسول الله ؟ قال: أن تحاسب حسابًا يسيرًا ويدخلك الله الجنة برحمته)) .
الثالثة: به يزدجر من أن يحكم بغير ما أنزل الله، أو يغش من يرعاه:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أيما راع غش رعيته فهو في النار».
وقال – صلى الله عليه وسلم -: « ما استرعى الله عبدًا رعية فلم يحط من ورائهم بالنصيحة إلا حرم الله عليه الجنة».
الرابعة: به يقول المسلم الحق ولا يخاف إلا الله:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرق الله به بين الحق والباطل».
الخامسة: به ينقاد المسلمون لحكم الله:
قال – تعالى -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65].
عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله؛ فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب؛ فقالوا: أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم؛ فأنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} قال نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم.
السادسة: به يرفق ولاة الأمور برعاياهم، ونصيحتهم:
قال – تعالى -: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين}[الحِجر:88].
وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين؛ فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة؛ فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس رواه أبو داود والترمذي
السابعة: به يجب طاعة ولاة الأمور في غير معصية، ويحرم طاعتهم في المعصية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}[محمد:33].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ: " عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ عَلَيْهِ».