هذه الحكمة تأثرت بها طويلًا على مدى حياتي كلها، وقد علمتني هذه الحكمة الأدب مع الله عز وجل، والأدب مع الناس، وعلمتني الأدب مع نفسي.. خدعوك فقالوا: إن الإنسان يشتهي لكي يتكلم، وعندما يتكلم فإن شهوته للكلام تهدأ، لا، هذا بالعكس، ولكن عندما يتكلم خاصة إذا كان الكلام غير شرعي في القيل والقال وفي أعراض الناس، عندما يتكلم يزيد، ويزيد، حتى يحسب أن الباطل هو الصواب.
تلقيت اتصالات منذ فترة من بعض أحبابنا، يقولون ادعُ الله لنا أن يشغلنا بأنفسنا، فإننا مشغولون بالناس، نتكلم عن الناس كثيرًا، ونقع في القيل والقال، الذي حذَّر منه النبي المصطفى المختار صلوات ربي وسلامه عليه، ساعدنا بالدعاء كي نكف ألسنتنا عن الناس.. هذا كلام جميل.. عندنا في الإسلام كف الأذى عن الناس باب عظيم من أبواب المجاهدة، وكف الأذى عن الناس بالسلب لا يقل في درجته عن عمل الحسنة بالإيجاب، فالثلاثة الذين أُغلق عليهم باب الغار وأُطْبقت عليهم الصخرة، هؤلاء الثلاثة كان أحدهم عمله سلبيًّا، لا يفعل شيئًا، سوى أنه عندما كان منها كما يكون الرجل من زوجته، قالت له يا فلان اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، كف الأذى، وهذا كف الجوارح، كف الجوارح عن الآثام، تساوى هذا مع الأول، ومع الثاني، ومع الثالث.
مع الذين فعلوا أفعالًا عملية، إما في رعاية الوالدين، أو في الحياء من الله تعالى من أن يأكل حرامًا، فأخذ مال الرجل الذي كان يعمل عنده، فرباه، ونماه، وزاده، وكثَّره، هذا هو المعنى الذي تدور حوله هذه الحكمة، من رأيته مجيبًا عن كل ما سُئل، أي يتكلم في كل شيء، ولا يميز بين ما يعرف وما لا يعرف، وبين المعلومة الظنية، والمعلومة الحقيقية، ويلبس الباطل بالباطل، ويهمش الحق، فاعلم أنه ليس بعالم، وليس بنصف عالم، العالم هو الذي قال عنه الملك: {الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، إذا تكلم هذا الخبير بالله، أثَّر في الناس، إذا قال: الحمد لله، لأبكى الأمة كلها، لماذا؟.
لأنه لا يتكلم بلسانه، إنما يتكلم بقلبه، وقبل أن يقول الكلمة، وقبل أن يتفوه بها يديرها في رأسه، هل يصح أن أقولها الآن أم أنتظر؟ لو قلتها الآن تكون مناسبة للمكان ولمشاعر الحضور؟ وإذا أفتيت بهذه الفتوى، هل هي دقيقة من الناحية الشرعية؟ هل سأحاسب عليها يوم القيامة؟ عندما يفكر في نفسه قبل أن يتكلم، سيرى أن تسعين في المائة من الكلام الذي سيقوله يقوله لا ينبغي أن يقوله.
وقد جربت هذا كثيرًا مع نفسي مجاهدًا إياها، عندما نكون في مكان وهناك موضوعات مثارة، وكلٌّ من الحضور يتبارى في استعراض عضلاته، وأنا أقول سأقول كذا، وبعد هذ أقول هل هذا الكلام يبيض وجهي يوم القيامة؟ ثم أسكت مع نفسي، وأغير الكلام مرة، واثنتين وثلاثة وأربعة، وتمر الساعة، لا أتكلم مطلقًا، كل كلام ابن آدم عليه.. إلا ذكر الله وما والاه، أي كلامك كله محسوب عليك، فإذا رأيت أحد الناس تسأله في الطب يجيبك، وفي الرياضة يجيب، وفي السياسة يجيب، وفي الدين أستاذ، وفي كل شيء مجيب مجيب، موسوعة معارف متنقلة، وهو ليس كذلك، ليس هناك أحد على وجه الأرض، يعلم بكل شيء، هذا غير موجود.
ولذا فإنه لا يجوز أن يتكلم أحد في دين الله بغير علم أو بالظن والتخمين، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ القرآنَ لم ينزلْ لتَضرِبوا بعضَه ببعضٍ، ولكن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، فما عرفتُم منه فاعمَلوا به، وما تشابه عليكم فآمِنوا به)).
الإفتاء بغير علمٍ حرام؛ لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله, ويتضمن إضلال الناس, وهو من الكبائر, لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33], فقرنه بالفواحش والبغي والشرك , ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)). من أجل ذلك كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري. ونقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومالك، وغيرهم, وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعود نفسه عليه, ثم إن فَعَل المستفتي بناءً على الفتوى أمرًا محرمًا أو أَدَّى العبادة المفروضة على وجه فاسد, حمل المفتي بغير علم إثمَه, إن لم يكن المستفتي قَصَّر في البحث عمن هو أهل للفُتيا , وإلا فالإثم عليهما.
وعلى هذا؛ لا ينبغي للمسلم أن يتحدث عن أمرٍ ليست له معرفة كافية به، ولا عن أمر لا يتذكر وقائعه بشكل صحيح، ولا عما لا علم له به، ولكن يتحدث -إذا تحدث- بعلم، وإلا ففي الصمت السلامة، ولا يكلفه الله أن يتحدث بالظن الذي هو أكذب الحديث، ولا بما لا معرفة له به كافية. وقد يحتاج المسلم أحيانًا إلى التكلم بما يظنه أو لا يتذكره جيدًا، فينبغي عليه في هذه الحالة أن يبين هذا لسامعه أنه إنما يتكلم عن ظن وليس عن علم. وبالجملة؛ فلا يتكلم المسلم إلا بما يعلمه، ويتجنب حديث الظن والتخمين والاحتمالات إلا في حدود المصلحة التي يتعين معها مثل هذا الحديث.
أهل الذكر الذين يدلونك على الله، ويدلونك على ما يقربك من الله عز وجل، فعلموا تلاميذكم أن يقولوا لا أدري. هذا كلام الإمام مالك أستاذنا رضي الله تعالى عنه. يُسئل في مائة مسألة وهو الإمام مالك، إمام أهل المدينة، إمام دار الهجرة، شيء مزلزل وعظيم! يُسئل في مائة مسألة يجيب عن خمس مسائل فقط، هل هذا عجز؟ لا. لكنه يعرف أنه لا ينبغي أن يجيب عن كل ما يسأل. لكن بوسعه أن يقول للسائل أتركني حتى أبحث في هذه المسألة، ينبغي أن تمر علي بعد أسبوع، أو اذهب إلى الشيخ فلان، فإنه أعلم مني في أمور المواريث، أو اذهب إلى فلان، فإنه أعلم مني بموضوع فقه المعاملات.. وهكذا، هذا هو الكلام الذي يرضي الملك سبحانه وتعالى.
لكن إذا رأيت شخصًا يجيبك عن كل شيء، وعنده فصاحة مستعجمة غريبة، إلى حد العُجمة، يتكلم بكلام فيه مثاليات، لأنه لا يدرك الأمور كما ينبغي أن تكون، انظر إلى سيدنا صلى الله عليه وسلم وقد أوتي جوامع الكلم، يقول للرجل الذي ظن -أي الرجل- أن الإسلام عظيم كبير عليه، فجمع له الإسلام، مرة يقول له النبي: ((قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ))، كلمات محددة، ومرة يقول له النبي:: لاَ تَغْضَبْ)).
ومرة يقول له النبي: ((لا يزالُ لسانُكَ رَطْبًا مِن ذِكْرِ اللهِ))، لم يقدم له عريضة مواعظ، وينبغي، وينبغي، واحذر، ولا تحذر، وافعل، ولا تفعل..، إنما إذا رأيت الرجل يتكلم بحكمة عندما يُطلب منه الكلام، ولا يشتهي الكلام، ويحمد الله تعالى، أنه لم يتكلم، إلا إذا كان كلامه دعوة إلى الله عز وجل، أو كان أستاذًا في مجال معين، أو كان معلمًا، ولا بد أن يخرج أطايب الثمار، من رحيق حياته، وفن إبداعاته. فهذا هو المطلوب، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
دعا دعوة، هذه هي رسالته، دعا إلى الله وعمل صالحًا، الكلام مع العمل، وقال إنني من المسلمين، ليس عندنا في الإسلام أن تجيب عن كل الأسئلة، ولكن عندنا أمانة الكلمة، فإن تكلمت بالكلمة فاسأل نفسك: لماذا قلتها، وماذا لو سُئلت عنها يوم القيامة، الله سبحانه وتعالى سألك لِم قلت هذه الكلمة يوم كذا، لِمَ جرحت في فلان، ووقعت في عرض فلان، إذا جعلت لنفسك رقيبًا على ((عداد الكلمات)) فإنك ستراجع نفسك ألف ألف مرة قبل أن تتكلم، وفي هذا، يغيثك النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: ((إنَّ مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تركَه ما لا يَعنيه)).
وهذا الحديث يعتبره علماؤنا رضي الله عنهم ربع الإسلام، كما قال أستاذنا الكبير، الإمام ابن رجب الحنبلي: ((العلماء يعتبرون هذا الحديث ربع الإسلام))، فالإنسان لا يتكلم إلا فيما يعنيه فقط، وعندما يتكلم فيما يعنيه، ينظر ماذا ينبغي أن يتكلم، بعض الصحابة كانوا يضعون حصى أو قطعة زلط في أفواههم بحيث يحبس نفسه عن الكلام.