من خزائن الحكم ((من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه))
هذه هي الحكمة الثامنة والخمسون، وهي من حكم الصحابي العالم الجليل إمام العلماء معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه–، يقول فيها: ((من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه))، إنها حكمة كلنا يحتاج إليها، والأساس عندنا في الإسلام هذه القاعدة النورانية: كلِّم الناس قليلًا وناجِ ربك كثيرًا، تحدث مع الناس قليلا، أي إن الكلام كالملح في الطعام، قل آمنت بالله، قل جملة واحدة فقط ((آمنت بالله))، ثم استقم، أي أن حيز الكلام عبارة عن مقدمة للاستقامة، هذه الحكمة تقول: ((من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه)). فالشخص إذا اعتبر أن الكلام الذي يتكلم به سيحاسب عليه سيقوم بعملية اختيار لألفاظه أي ينتقي أطايب الكلام، ينقح الكلام -إن صح التعبير-، كل كلام يقوله فإنه يختاره، أي ينقيه قبل أن يتلفظ به، ويراجعه على قلبه قبل أن يتكلم به، فإذا ما رأى نفسه قد أفرط في الكلام وفي الجلوس مع اللئام، وفي انتهاك حرمة الأنام وجب عليه أن يجلس مع نفسه جلسة يحاسبها، وأن يعود إلى صوابه.
فمثلاً شخص وقع في ذنوبٍ كثيرةٍ، يبدأ بمسحها، يمسحها بالتوبة، فالذي يتوب يمسح المعاصي التي فعلها، ويمسح الصور الكئيبة الموجودة على جهاز المعلومات الخاص به وعلى هاتفه ، وهذه توبة صادقة، فيمسح المواقع الغير نظيفة الموجودة عنده في الإنترنت، ويمسح الرسائل غير المحترمة الموجودة على جهاز المحمول لديه، لماذا؟ لأن الإنسان سيحاسب على ما يكتب، وعلى ما يرى، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
لن أحدثكم اليوم عن خطورة اللسان؛ فقد تحدثنا عن هذا من قبل، لكن أتحدث في هذه الحكمة عن نقطةٍ مهمةٍ جدًّا، وهي: إذا رأيت أنك تتكلم بإعجاب وأنت معجب بنفسك، وعندك حالة الإعجاب من الناس، فهذا معناه أنه قد دخل العجب إلى قلبك، فتوقف عن الكلام، هذه الأمور ليست مثالية، لو وجدت أن الصمت أبلغ من الكلام، وأن الناس يثنون عليك بصمتك تكلم، ولو وجدت أن الكلام أبلغ من الصمت وأن الناس يثنون على كلامك فاصمت.
أقول: إن هذا الكلام ليس مثاليًّا أبدًا، إنَّما هذا الكلام داخل في إطار الحكمة، وأنا اتكلم عن الحكم، لأن الحكمة عبارة عن جملة مختصرة، تضم فوائد مكتسبة ليس لها حد، وليس لها وصل، لماذا هي حكمة؟ لأنها تجمع معاني بليغة، مثلما تعلمناه من سيدنا صلى الله عليه وسلم، الذي أوتيَ جوامع الكَلِم، ففي الحديث عن عقبة بن عامر قال(قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما النَّجاةُ؟ قال: أمسِكْ عليْكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِكَ))( ).
فالمسألة كلها في هذا اللسان.
((من عَدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه))، فيتكلم فقط في الأمور التي يرى نفسه محتاجًا إليها، والتي لا بد أن يظهر فيها جانب الحق في مواضع معينة، فيتحتم عليك الدفاع عن نفسك، أو الدفاع عن عرض أخيك، فعندما يُنتهك عرض أخيك، وجب عليك الكلام، تتكلم بالحق، وتنطق بالحق، وتبلِّغ بالحق، والله لا يستحي من الحق، ولكن لا تدافع عن نفسك بالباطل، أو تنحاز لصديق أو زميل أو جار أو قريب، وتدافع عن الباطل، وأنت تعلم أنه باطل، ولا تقل أنا مع الناس، إذا أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أساءت، لا، هذا منهج خاطئ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا مثلهم، وإن أساءوا تتجنبوا إساءتهم.
المشكلة في حياتنا أننا اعتقدنا أن المعاصي معناها وقوع الإنسان في مخالفات شرعية، مثل الزنا والكذب، ومثل السرقة والاختلاس وتضييع أموال الناس بالباطل، وعدم الأمانة... إلخ، هذا صحيح، لكن هناك جانب آخر؛ جانب المحاسبة.. متى أتكلم؟ ومتى أسكت؟ متى أنطق؟ وعندما أنطق بماذا أنطق؟ هذا هو الكلام الذي نتحدث عنه في هذه الحكمة، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالَ: وما جَائِزَتُهُ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ ولَيْلَةٌ، والضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أيَّامٍ، فَما كانَ ورَاءَ ذلكَ فَهو صَدَقَةٌ عليه، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ.))( ).
عندنا في الإسلام باب كفّ الأذى عن الناس، اضبط لسانك، واضبط أعصابك، وتحكم في أعصابك، وتحكم في لسانك، إن تحكمت في لسانك وأمسكت لسانك وحبست لسانك، فأنت داخل في قوله تعالى: {أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] إذًا حقيقة الإيمان أن تعد كلامك، وتعرف أن الملكين لا ينامان، ويكتبان عليك الصغيرة قبل الكبيرة، إلا إذا تبت إلى الله عز وجل، ولذا، علمك النبي صلى الله عليه وسلم كفارة المجلس، ففي الحديث ((ما جلَس رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم مجلِسًا، ولا تلا قُرْآنًا، ولا صلَّى صلاةً، إلَّا ختَم ذلكَ بكلِماتٍ، قالَتْ: فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أراك ما تجلِسُ مجلِسًا ولا تتلو قُرْآنًا، ولا تُصلِّي صلاةً، إلَّا ختَمْتَ بهؤلاءِ الكلِماتِ، قال: نَعم، مَن قال خيرًا خُتِمَ له طابَعٌ على ذلكَ الخيرِ، ومَن قال شرًّا، كُنَّ له كفَّارةً: سُبحانَكَ وبحمدِكَ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ، عن عائشةَ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم كان إذا جلَس مجلِسًا أو صلَّى تكلَّم بكلِماتٍ، فسأَلَتْه عائشةُ عنِ الكلِماتِ، فقال: إن تكلَّم بخيرٍ كان طابَعًا عليهنَّ إلى يومِ القيامةِ، وإن تكلَّم بغيرِ ذلكَ كان كفَّارةً: سُبحانَكَ وبحمدِكَ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ))