ونجمل فوائد وأهمية وحدة النسق القرآني في النقاط التالية: 1- امتزاج الوجه الديني بالبناء الفني، ويبدو ذلك في أوائل القصص الواردة في السور القرآنية، وهذا يكون للتمهيد للقصة أو في أوائلها، كما في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13]، وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [آل عمران: 11]، وقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [سورة القلم: 17] ، وفي نهاية القصة غالبا تعقيب ديني يناسب العبرة فيها، والمقصود من ذكر القصة والهدف والغاية منها، فامتزجت الصورة في الوجه الديني والوجه الفني. 2- امتزاج الواقع المشهود بغرض السورة كما ورد من مشاهد ولوحات واقعية، فقد شملت مشاهد الكون كلها كالإنسان والحيوان والنبات والجماد، واختلطت في بعضها مشاهد السماوات والأرض، والأفلاك والأجرام والظل والشمس والقمر، وغير ذلك، فضلا عن ذكر أحداث ووقائع ونماذج من الحاضر والماضي، وهي ما وقع من أحداث بين الأنبياء وأقوامهم، إذ ورد في صورة قرآنية تستهدف العبرة، والوسيلة للتأثير على البيئة الجاهلية، ومن ذلك قصة ابني آدم، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}( [المائدة: 27]، وطوفان نوح، قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ})( ) [هود: 42 – 43]. 3- الصورة الحرة في نظام التعبير القرآني، وتأتي على هيئة وصف، أو مشهد، أو صورة حسية يدركها الذهن والخيال والمشاعر، التي تسهم في جلاء التجربة واستشعارها، والكشف عن أبعادها، وهي الصورة الحقيقية للنسق القرآني، والتي تنتقل من مشهد إلى آخر، ومن وصف إلى آحر، داخل السورة الواحدة، قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21]، فهنا استشعار حقيقي للخوف يكشفه التوكل على الله تعالى، والإخلاص وعدم اليأس من شدة الخطر، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 128]، فقد رسمت هذه الآية صورة حسية يدركها الذهن ويستشعرها القلب، ونجدها في "خائفا يترقب" وهي صورة نفسية انفعالية وذهنية، وفي "زحزح عن النار وأدخل الجنة" صورة حركية استشعرها الذهن وأثرت في قوى وإحساس الجسد، صورها الخيال ليحس بها المتلقي نفسه. 4- الاستبصار بمقصود السورة القرآنية استجلاء لأسرار تكرار القصص واختلاف الآيات المتشابهة في التعبير، فإن كل سورة أعيدت فيها قصة في معنى غير الأول الذي سيقت إليه في السورة السابقة؛ فتختلف عبارات القصّة وألفاظها بحسب الأغراض، وتتغير النظوم بالتأخير والتقديم، والإيجاز والتطويل، والذكر والحذف، مع أنها لا تخالف شيئا من ذلك في أصل المعنى الذي تكونت به القصة؛ لأن القصة القرآنية إنما تساق لتفيد عبرة من العبر، أو كلمة ما، ودرس جديد ودلالات كثيرة. ومثال تكرار الآيات بما يناسب مقصود السورة، ذكر الله تعالى قصة زكريا ومريم عليهما السلام في سورة آل عمران، وسورة مريم، وفي كل سورة مقصدها من القصة مع مراعاة الإيجاز والإطالة وأسلوب التعبير والتعريض بين الآيات، ففي ذكر زكريا عليه السلام في سورة آل عمران، قال تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وفي سورة مريم قال تعالى: {قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، وقال تعالى في سورة آل عمران في قصة مريم عليها السلام: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} [آل عمران: 45] وفي سورة مريم قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 19 – 21]، فلأجل اختلاف مقاصد السور تغيرت نظم القصص وألفاظها وأساليبها بحسب المقصود، فمقصود سورة آل عمران: التوحيد وابتدأت بالتوحيد، وختمت بما بني عليه من الصبر وما فيه من عظمة التقوى، أما مقصود سورة مريم فكان: شمول الرحمة. 5- مراعاة نسق السورة وطابعها الخاصّ على الأسرار البيانية المنطوية تحت الفروق اللغوية والتعبيرية البلاغية في السورة القرآنية، فنجد المعنى الواحد يرد في أكثر من سورة، ولكن بتعبير آخر يلائم سياقها؛ وذلك لأن الكلمات والمفردات والتراكيب تتجه برمتها لخدمة مقصود السورة القرآنية، وتتأثر في صياغتها وسبكها بروحها( ). ومثال ذلك قوله تعالى: {إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]، وقوله تعالى: {إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، فالسر البياني في الفروق اللغوية يكمن في مقصود السورة، إذ يعزو التعبير بإبداء الخير في آية النساء إلى مناسبة الطابع العام الذي يغلب عليها، وهو طرق الخير وعمل البر، أما في الآية الأخرى فقد ذكر تعالى في السورة الطلاق، وكتمان القول، وتقوى الله وأمر الحجاب، والتبني واللعان، فناسب تعميم لفظة "تبدوا" بلفظة "شيئا" بقوله تعالى: {إِن تُبْدُوا شَيْئًا}، ومثاله أيضا قوله تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 40]، وقوله تعالى: {كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 47] ففي الأولى تفويض الأمر والفعل كله لله، وفي الآية الأخرى تركز الحديث على خلق عيسى عليه السلام. 6- وتفيد وحدة النسق القرآني الأداء بتنوع أساليبه وظواهره، لتعطيه جمالية عالية بعيدة عن التكلّف والملل؛ لأن التفنن في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد، لهذا وردت بعض آيات القرآن متماثلة المقاطع وبعضها غير متماثل. وظهرت عناية النص القرآني بتنوع الأساليب، وظواهر التعبير كالحذف والذكر، والالتفات والتضمين والتكرار، وغيرها من الظواهر الأسلوبية، والدليل على تعدد الأساليب قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]، ومن أمثلة ذلك: أسلوب الشرط والأصل فيه أن يقع الشيء لوقوع غيره فيتوقف الثاني على الأول، قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ، وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، وقد يخرج الشرط عن هذه العلاقة والأصل، فيكون الشرط والجزاء متقارنين في زمان، قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، [البقرة: 149]، ومثال أسلوب الاستفهام الذي يأتي في فواتح السور متخذا منحى التشويق لمعرفة المقصود، قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1]. ويكشف الاستعمال القرآني عن قوة دلالة "هل " على الاستفهام من الهمزة، ففي قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج: 72]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ} [المائدة: 60]، فاستفهم القرآن بهل والهمزة مع الفعل "نبأ" والسياق بين أن هل أقوى من الهمزة