الصدق منجاة.. درس تعلمناه من أحداث غزوة تبوك
في غزوة تبوك
كان الكاذبون على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرين، وكان الصادقون
ثلاثة، فالذين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه كانوا يعتذرون
بأعذار واهية، وأعذار ضعيفة، يقول أحدهم: يا رسول الله، إن زوجتي كانت مريضة، يقول
له: لا حرج، عفا الله عنك، ويأتي أحدهم يقول: عندي آلام في بطني، لا حرج، عفا الله
عنك، ويأتى أحدهم يقول: عندي صداع، فيقول: لا حرج، عفا الله عنك، جاء ذلك في قوله
تعالى {يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ
لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:
94).
والمعنى: يعتذر إليكم أيها المؤمنون هؤلاء المتخلفون عن
جهاد المشركين بالأكاذيب عندما تعودون من جهادكم من غزوة تبوك، قل لهم أيها
الرسول: لا تعتذروا، لن نصدقكم فيما تقولون، قد نبأنا الله من أمركم ما حقق لدينا
كذبكم، وسيرى الله عملكم ورسوله، إن كنتم تتوبون من نفاقكم، أو تقيمون عليه،
وسيظهر للناس أعمالكم في الدنيا، ثم ترجعون بعد مماتكم إلى الذي لا تخفى عليه
بواطن أموركم وظواهرها، فيخبركم بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: غفر
الله لكم، عفا الله عنكم، حتى جاء قوله تعالى {عَفَا اللهُ عَنْكَ لمَ أَذِنْتَ
لهُمْ} (التوبة: 43) يعني: أكرمك الله،
وأصلح بالك، وحفظك، لأنك أذنت لهم، لأنهم لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا، كما
جاء في قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ
خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47).
فلو خرج
المنافقون معكم أيها الرسول للجهاد لنشروا الاضطراب في الصفوف والشر والفساد،
ولأسرعوا السير بينكم بالنميمة والبغضاء، يبغون فتنتكم بتثبيطكم عن الجهاد في سبيل
الله، وفيكم أيها الرسول عيون لهم يسمعون أخباركم، وينقلونها إليهم، والله عليم
بهؤلاء المنافقين الظالمين، وسيجازيهم على ذلك.
هؤلاء هم الذين
كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا؟ بإخبارهم، لأجل هذا هؤلاء لا
يمثلون شيئًا، كما يقال في الأمثلة العربية: لا في العير ولا في النفير، واحد
يساوي ألفًا من الرجال، وألف رجل لا يساوون شيئًا، لعدم صدقهم مع الله.
وقال تعالى:في وصف الرجال الذين ما بلغوا مرتبة الرجولة
الإيمانية إلا بالصدق: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُم مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).
من المؤمنين رجال
أوفوا بعهودهم مع الله تعالى، وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس، فمنهم مَن
وفى بنذره، فاستشهد في سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء، ومنهم مَن ينتظر إحدى
الحسنيين، النصر أو الشهادة، وما غيَّروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدَّلوه، كما
غيَّر المنافقون.
فلأنهم صدقوا ما
عاهدوا الله فإنهم يتحملون كل شيء لأجل الله، لأنهم صادقون مع الله، عاهدوا الله
على ماذا؟ على النصر أو الشهادة، عاهدوا الله على الثبات لأجل دينه، وعاهدوا الله
على نصرة دينه، عاهدوا الله على التضحية لأجل رسوله صلى الله عليه وسلم.
المنافقون
كانوا يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأذن لهم، لأنهم منافقون،
ويقبل اعتذارهم، كذبوا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعندما كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبوا على
الله تعالى، لكن ثلاثة من المؤمنين لم يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
كل واحد منهم حكى ما حدث بالضبط: يا رسول الله، بينما أستعد للخروج في سبيل الله ذهبت
إلى منزلي فوجدت الماء باردًا، والظل رطبًا، فجلست، وقلت: أستمتع بالماء، وأستمتع
بالظل، ولماذا أخرج إلى هذا الحر الشديد؟ قَصَّ ما حدث بالضبط، مما جعله يتخلف عن
هذه الغزوة الصعبة، صدق مع الله فصدق الله تعالى معه، هؤلاء الثلاثة هم: كعب بن
مالك، ومرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية؛ لأنهم صدقوا مع الله، ولم يكذبوا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى صدق معهم، ولأنهم صادقون ذكرهم الله
تعالى في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى
إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:
118).
تاب الله على كعب بن مالك، وهلال بن أميَّة، ومُرَارة بن
الربيع، الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن حزنوا حزنًا
شديدًا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بسَعَتها غمًّا وندمًا بسبب تخلفهم، وضاقت عليهم
أنفسهم لِمَا أصابهم من الهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فوفَّقهم الله
سبحانه وتعالى إلى الطاعة والرجوع إلى ما يرضيه سبحانه، إن الله هو التواب على
عباده، الرحيم بهم.
هل ترى أن هذه الأرض ضيقة؟ نعم قد تضيق
على الإنسان، لماذا ضاقت الأرض في وجوههم؟ لأنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه يعرضون عنهم، حتى يأتي الفرج من الله، فاعتزلوا الناس، ودخلوا في
مرحلة الفتنة، وفي مرحلة البلاء، حتى جاءتهم البشرى من الله بالتوبة، كما قال
تعالى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا
إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ} (التوبة:
118)، أي وصلوا إلى عقيدة ثابتة، لا ملجأ من الله إلا إليه،
تفرون من قدر الله إلى قدر الله، وتفرون من قضاء الله قضاء إلى الله، ففتح لهم
بابًا من أبواب التوبة كي يتوبوا.. هل عرفت هؤلاء الثلاثة؟ وماذا فعلوا؟ فتشبهوا
بهم، لأن الله تعالى قال بعد قصتهم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ
وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة:119).
يأيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، امتثلوا
أوامر الله، واجتنبوا نواهيه في كل ما تفعلون وتتركون، وكونوا مع الصادقين في
أيمانهم وعهودهم، وفي كل شأن من شؤونهم، وتشبهوا بأفعالهم، فإن مَن تشبه بالكريم
كريم عند أكرم الأكرمين، ومَن تشبه بالصادقين صادق عند الله رب العالمين.