أبو محمد حبيب الفارسي

أبو محمد حبيب الفارسي

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، قيّوم السماوات والأرض، ذي الجلال والإكرام، تواضع كل شيء لعظمته، واستسلم كلّ شيء لإرادته، لا يرتفع شيء إلا بمشيئته، ما رفعه الله لا يخفضه أحد، ومن أذلّه الله لا يعزه أحد، ومن أعزه الله لا يذله أحد.

اللهم اجبر خاطرنا، واذكرنا الآن في الملأ الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 70]. والصلاة والسلام على سيد الكل، وخير الكل، وأول شافع وأول مشفع، وأصدق قائل، وخير مبلغ عن رب العالمين.

محمد بشر في نوره قمر في

 

طهره ملك يمشي على قدم

وكيف يدرك في الدنيا حقيقته

 

قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
 

 

فهب أن العلم فيه أنه بشر

 

 وأنه خير خلق الله كلهم
 

 

وكل آي أتى الرسل الكرام بها

 

فإنما اتصلت من نوره بهم

صلى الله عليه وسلم.

نلتقي بأحد الكبار من الطبقة الرابعة من علماء البصرة. البصرة بها أربع طبقات: الطبقة الأولى هم الذين عايشوا الصحابة رضي الله عنهم. الطبقة الثانية على رأسها الإمام الحسن البصري رضي الله عنه. الطبقة الرابعة على رأسها حبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله تعالى، عندما تطالع كتاب (صفة الصفوة) أول كلمة يقولها: وكان مجاب الدعوة.

الغريب والجميل أنه لم يكن متدينًا في مستقبل حياته، يتوه مع التائهين، ويلهو مع اللاهين، ولا يذكر مع الذاكرين، فحضر حبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله تعالى مجلسًا للإمام الحسن البصري رضي الله عنه، ولم يؤخذ كما ينبغي أن يؤخذ لأنه كان متعلقا بالدنيا، لكن بدأ يشد إلى الله تعالى.

في المجلس الثاني تكلّم الإمام الحسن البصري رضي الله عنه عن الجنة، فشوقه إليها، فتصدق بكل ما يملك، هذا أول طريقه إلى الله.

 اللهم كما استجابوا لك، فأعطيتهم فاجعلنا مستجيبين لك كي تعطينا كما أعطيتهم {كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء].

 كان الناس في حالة مجاعة، في وقت تخلص فيه من كل ماله وزهد في الدنيا، وجعلها تحت قدميه، فخرج واقترض مالًا، واشترى به طعامًا للناس في عام يوصف بعام المجاعة، ليس في البصرة طعام يذكر وأوشك الناس على الهلاك فاستدان دينا كبيرا، ففرج على الناس. أفلا يفرج على الناس، ويضيق الله تعالى عليه؟ حاشا.

فجاءه الديانة -أصحاب المال- يسألونه عن مالهم، يا أبا محمد: أين مالنا؟ فقال لهم: ائتوني غدًا فأتى بأكياس فارغة وربطها ووضعها تحت وسادته، وقام الليل كله يدعو الله تعالى أن يجد له مخرجًا، وكانوا لا ينامون إلا قليلًا.

ولو أردت أن أصف حبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله تعالى كان من أكبر البكائين على وجه الأرض {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ (9)} [الأنفال]. 

فلما أصبح الصباح أتى الديانة في الصباح، فرفع الوسادة وسحب الأكياس، فإذا هي مليئة بالدراهم لكل دائن الكيس الخاص به ملء بالفلوس. فإذا بالأموال كما دعا الله تعالى، فأغاثه الله تعالى، لكن أفضل عمل عند الله تعالى أن تفرح الناس، وأن تطعم كبدًا جائعة.  

 يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "وكان يصلي الظهر يوم التروية يعني يوم الثامن من ذي الحجة في البصرة، ويدرك الناس في عرفات الله تعالى يوم التاسع".

ألم أقل لك: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} [الشورى].

وسألوه: من خير الناس عند الله تعالى؟ قال: خير الناس عند الله تعالى من مات، وماتت معه ذنوبه يعني: لا يذكره أحد بسوء بعد موته.

وذات يوم كانوا في منزله يتدارسون العلم بين الثلاثة الأكابر: مالك بن دينار، ومحمد بن واسع البصري، وحبيب أبو محمد الفارسي، رحمهم الله تعالى، فأتى رجل من السفهاء، فتهجم على مالك بن دينار، رحمه الله تعالى، واشتد عليه يقول: أنت الذي فعلت كذا؟ يقول: والله ما فعلت، ويبكي مالك بن دينار، وهو رجل صالح كبير على ذنب لم يفعله، فرفع حبيب أبو محمد الفارسي يديه إلى الله، وقال: يا ربّ إن هذا شغلنا عن ذكرك، اللهم أرحنا منه الآن، فسقط ميتا. ذكره ابن الجوزي في (صفة الصفوة) .

وهذه المواقف كثيرة في حياتهم، وهي جميلة توضح أنهم لا ترد لهم دعوة لسابق صفاء قلوبهم مع الله.      

وذات مرة أتى إليه أحد هؤلاء السفهاء أيضا، وهو جالس مع الناس فقال له: يا حبيب لي عندك ثلاثمائة درهم، وقد أخذتها مني يوم كذا، فلم يشأ أن يجادله؛ لأنك لو جادلت السفهاء أنقصت من قدر نفسك، فقال له: ائتني غدا. جواب الحكيم. وقام الليلة كلها، وقال: اللهم إن كان كلام هذا الرجل صادقا فردّ إليه ماله، وإن كان كاذبا، فأرني فيه آية، فلما أتى الصبح قال: أحضروا الرجل فأحضروه، فإذا به الفالج، يعني شلّ، وقال له: إني أعتذر إليك يا إمام، فإني ما أخذت منك شيئا، وإنما أردت إحراجك أمام الناس، فقال حبيب أبو محمد الفارسي: اللهم إن كان صادقا، فأعد إليه عافيته، فقام كأنما نشط من عقال.

تستشعر أن الله تعالى ييسر الأمور لهم كأن الدنيا كلها في قبضة أيديهم      

ألم أقل لك لكن ما صدقتني: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22].

وجاء رجل إلى أبي محمد فشكا إليه ديناً عليه، فقال حبيب: اذهب فاستقرض وأنا أضمن. لو معي لأعطيتك وهكذا فعل رسول الله والقصة معروفة فاستلف له وصار هو الضامن، فأتى رجلاً فأقرضه خمس مائة درهم، وضمنها أبو محمد. ثم جاء الرجل فقال: يا أبا محمد دراهمي، فقد أضر بي حبسها. فقال: نعم غداً. كي يشتغل فيها يعني يتعبد فيها وكانوا ستلذون بالعادة خلافنا، فتوضأ أبو محمد ودخل المسجد ودعا الله تعالى الليلة كلها. وجاء الرجل فقال له: اذهب فإن وجدت في المسجد شيئاً فخذه. فذهب فإذا في المسجد عند المنبر صرة فيها خمس مائة درهم، فذهب فوجدها تزيد على خمس مائة فرجع إليه، فقال: يا أبا محمد تلك الدراهم تزيد. فقال اذهب فهي لك، من وزنها وزنها راجحة.

ألم أقل لك: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 22].

وكانت زوجته اسمها عمرة، اسمها مقتبس من قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال حبيب أبو محمد الفارسي: أتانا سائل وقد عجنت عمرة وذهبت تجيء بنار تخبزه فقلت للسائل: خذ العجين فاحتمله. فجاءت السيدة عمرة فقالت: أين العجين يا حبيب؟ فقلت: ذهبوا به يخبزونه. عنده ثقة بالله. قال: فلما أكثرت عليّ أخبرتها فقالت: سبحان الله لا بد لنا من شيء نأكله. قال: فإذا رجل قد جاء بجفنة عظيمة مملوءة خبزاً ولحماً. فقالت عمرة: ما أسرع ما ردوه عليك حاجتك قد خبزوه وجعلوا معه لحماً. وهذه جنود من عند الله لا أعلّق  عليها.

وما أراد حبيب أبو محمد الفارسي شيئا إلا أعطاه الله إياه، ومن سمات ورعه وروعته، وإقبال قلبه أن جارا له حكى هذه الحكاية قال: صليت العشاء فسمعت حبيبا يبكي حتى الفجر، وعدنا من الصلاة إذا هو يبكي بعد الفجر، فذهبت إليهم في الصباح، فسألهم فقالت عمرة زوجته: إذا كان في الليل قال: إن النهار لن يطلع عليّ هذه آخر ليلة (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)  وإذا كان بالنهار قال: لن يأتي عليّ الليل.

لذا بكاؤهم جعل قلوبهم رقيقة، وجعل سريرتهم صافية، وجعل لهم لسان صدق مع الله وجعل لهم لسان صدق من الله.

أخيرا كان من حكمه الربانية أنه قال هذه الجملة، الحكمة الأولى، وقد ذكرتها عام 2014 قال: لا تقعدوا فراغا فإن الموت يطلبكم. والحكمة الثانية ذكرتها من شهرين: من سعادة المرء أن يموت وتموت ذنوبه معه.     

اللهم كما علمتهم علمنا، وكما رقيتهم رقنا، وكما نورتهم نورنا، وكما أسعدتهم أسعدنا، وكما حنوت عليهم احنو علينا، وكما هديتهم اهدنا، وكما سخرت القلوب لهم سخر القلوب لنا، اللهم كما قربتهم قربنا إليك {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52].




تصفح أيضا

المجيد

المجيد

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض