( بلاغة اللفظ القرآني واتساع دلالته بالجمع بين الحقيقة والمجاز)

الرئيسية المقالات مقالات دينية

( بلاغة اللفظ القرآني واتساع دلالته بالجمع بين الحقيقة والمجاز)


اشتمل القرآن الكريم على الحقيقة والمجاز جريًا على اللغة العربية، فقد نزل بلسان عربي مبين، مما أعطى للقرآن شطر الجمال، ولا شك أن التعبير بالشيئين أوسع وأجمل وأبلغ من التعبير بالشيء الواحد خصوصًا بالمجاز، وسيما وأن التعبير بالمجاز فيه توسع أكثر من التعبير بالحقيقة.
ولا نزاع في استعمال القرآن للحقيقة بين العلماء، ولكن النزاع في استخدامه للمجاز، إذ قيل إن الله لا يعجز عن مخاطبة البشر بالحقيقة فلماذا يلجأ إلى المجاز، وقيل إن المجاز قد يحتوي على كذب، والكذب محال على الله سبحانه، ورد ذلك الجمهور لضعف الشبهة، وأن به الصدق وبه البلاغة المتزايدة، وأنه يلزم من سقوط المجاز سقوط الحذف والتوكيد وتكرار القصص، ولمّا كان ذلك واقعا في القرآن كان المجاز واقعًا إذ هما سيان، وإنما يعدًل عن الحقيقة إلى المجاز لمعان وفوائد بلاغية كتأكيد المعنى بتجسيده أو بتشخيصه وتصويره بعبارات موجزة، وكل مجاز له حقيقة لأنه فرع منها.
المعنى اللغوي للحقيقة ـ مأخوذ من حق الشيء أي ثبت ووجب، واستحق الشيء استوجبه، والحقيقة أي الواقع المتحقق، والحقيقة ضد المجاز، والحق ضد الباطل، والحق من أسماء الله الحسنى ومن معانيه الواجب الوجود الثابت لذاته، فهو لا يتغير ذاتًا ولا صفة ولا أسماءً، وأفعاله لا يستطيعها الخلق، وأما المعنى الاصطلاحي للحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وُضِع له، أي ثبت استعماله ووجب واستقر في معناه الأصلي دون تجاوز.
والمجاز: مصدرًا ميمي لـ (جاز) على وزن (مَفعَل)، بمعنى حدث التعدي والانتقال، وقد يأتي (أجاز) و(جاوز) بمعنى (جاز).
أما معناه الاصطلاحي فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اللغة أو الشرع أو العُرف، وذلك لمناسبة بينهما مع قرينة مانعة من المعنى الحقيقي، أي أنَّ اللفظَ تعدّى الحقيقة في الاستعمال، والمناسبة تكون أما مشابهة كما في الاستعارة، أو غير مشابهة كما في المجازين المرسل والعقلي.
وباعتبار الحقيقة والمجاز مصادر، فإنها تعبر عن المعاني المجردة أي عن المعقولات، شأنها شأن الصدق والكذب، والعلم والجهل، وقرينة المجاز أي ما يصاحبه من مقال أو حال.
وأنواع الحقيقة ثلاثة هي:
1 ـ الحقيقة اللغوية وهي الألفاظ المستعملة في معاني كلام العرب الفصحاء، مثلاً: (الصلاة ) في كلام العرب تعني الدعاء، ومثلاً: رأيت أسدًا يفترس، فكلمة (أسد) حقيقة أنه يفترس.
2 ـ الحقيقة الشرعية: وهي الألفاظ المستعملة في معاني الشريعة، نحو (الصلاة) هي العبادة المعروفة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم المشتملة على أفعال، وأقوال مخصوصة شرعية.
3 ـ الحقيقة العرفية، وهي إما عامة تعارف عليها كل الناس، أو جلهم في بلد ما أو كل البلدان، مثل دابة على الحيوان الماشي على أربع أرجل، مع أنه في اللغة كل من يدب على الأرض، ومثل (اللحم) المتعارف عليه لحم الحيوان البري مع أن السمك يسمى لحماً في اللغة، وإما خاصة يتعارف عليها جماعة من الناس، نحو لفظ (الذرة) في العرف الفيزيائي هي وحدة بناء المادة، وهي عبارة عن نواة يدور حولها إلكترونات بينما في اللغة هي النملة الصغيرة جداً أو الشيء الصغير جداً، ومثل (الخلية) في العرف الحيويين، هي وحدة بناء الكائن الحي، وفي اللغة تطلق كذا على خلايا النحل .. ونحوها.
وقرائن المجاز أما أن تعرَف من اللفظ وحينها تسمى مقالية (أو لفظية أو سمعية) أو تٌعرًف بملابسات الكلام من الأحوال وحينها تسمى حالية (أو معنوية أو عقلية)، وقد تذكَر القرينة في موضع منفصل عن المجاز، فإطلاق الظلم على الشرك فقط في آية الأنعام هو مجازي، لأنه أعم، فهو من باب تسمية الجزء بالكل.
ومن الوجوه التي تتعدد بها الدلالة وتتسع؛ إذ تُحمل الكلمة على الحقيقة والمجاز، وأمثلة ذلك عديدة في كتاب الله تعالى عزَّ وجلَّ، ومن ذلك: كلمة: [ الثياب ] في قوله تعالى:﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾[المدثر:4]؛ فقد رجح أبو حيان الحقيقة رغم حكايته للأقوال المرجحة للمجاز.
- واختار أبو حيان أنَّ "الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات؛ لأنَّ طهارةَ الثياب شرط في صحة الصلاة.
والقول إنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي".
وقد حكى ابن كثير الأقوال السابقة، ثم رجح الجمع بين الحقيقة والمجاز، فذكر من ذهب إلى المجاز كقول القائل: "لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
لبست ولا من غدرة اتقنع
- وقال عمرو بن معد يكرب:
إذا المرءُ لم يدنس من اللؤم
عرضه فكل رداء يرتديه جميلُ
وقال سعيد بن جبير: في قوله تعالى (وثيابك فطهر) قلبك ونيتك فطهر أما وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق
نخلص من هذا لكون السياق في هذه السورة الكريمة يحتمل الجمع بين المعاني المذكورة في هذه الآية سواء أكان حقيقة أم مجازًا؛ وذلك لأنَّ الدَّاعي إلى الله من أكرم الرسل وينبغي أن يجتمع له صلاح الظاهر والباطن المشتمل على حسن المظهر والمخبر.
ومن الشواهد المُعبِّرة – كذلك – عن الجمع بين المعنيين الحقيقي والمجازي في القرآن الكريم، قوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة: 197]؛ حيث جعل الزاد جنسًا يشمل كلاً النوعين الحقيقي الحسي المعهود، أو المجازي المعنوي وهو تقوى الله تعالى؛ فحمل الزاد على معنييه الحقيقي والمجازي.

تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض