((من رأيته مُجيبًا عن كل ما سُئِل، ومُعَبِرًا عن كل ما شهد، فاستدل على جهله))

الرئيسية المقالات مقالات دينية

((من رأيته مُجيبًا عن كل ما سُئِل، ومُعَبِرًا عن كل ما شهد، فاستدل على جهله))

هذه الحكمة تأثرت بها طويلًا على مدى حياتي كلها، وقد علمتني هذه الحكمة الأدب مع الله عز وجل، والأدب مع الناس، وعلمتني الأدب مع نفسي.. خدعوك فقالوا: إن الإنسان يشتهي لكي يتكلم، وعندما يتكلم فإن شهوته للكلام تهدأ، لا، هذا بالعكس، ولكن عندما يتكلم خاصة إذا كان الكلام غير شرعي في القيل والقال وفي أعراض الناس، عندما يتكلم يزيد، ويزيد، حتى يحسب أن الباطل هو الصواب.
تلقيت اتصالات منذ فترة من بعض أحبابنا، يقولون ادعُ الله لنا أن يشغلنا بأنفسنا، فإننا مشغولون بالناس، نتكلم عن الناس كثيرًا، ونقع في القيل والقال، الذي حذَّر منه النبي المصطفى المختار صلوات ربي وسلامه عليه، ساعدنا بالدعاء كي نكف ألسنتنا عن الناس.. هذا كلام جميل.. عندنا في الإسلام كف الأذى عن الناس باب عظيم من أبواب المجاهدة، وكف الأذى عن الناس بالسلب لا يقل في درجته عن عمل الحسنة بالإيجاب، فالثلاثة الذين أُغلق عليهم باب الغار وأُطْبقت عليهم الصخرة، هؤلاء الثلاثة كان أحدهم عمله سلبيًّا، لا يفعل شيئًا، سوى أنه عندما كان منها كما يكون الرجل من زوجته، قالت له يا فلان اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، كف الأذى، وهذا كف الجوارح، كف الجوارح عن الآثام، تساوى هذا مع الأول، ومع الثاني، ومع الثالث.
مع الذين فعلوا أفعالًا عملية، إما في رعاية الوالدين، أو في الحياء من الله تعالى من أن يأكل حرامًا، فأخذ مال الرجل الذي كان يعمل عنده، فرباه، ونماه، وزاده، وكثَّره، هذا هو المعنى الذي تدور حوله هذه الحكمة، من رأيته مجيبًا عن كل ما سُئل، أي يتكلم في كل شيء، ولا يميز بين ما يعرف وما لا يعرف، وبين المعلومة الظنية، والمعلومة الحقيقية، ويلبس الباطل بالباطل، ويهمش الحق، فاعلم أنه ليس بعالم، وليس بنصف عالم، العالم هو الذي قال عنه الملك: {الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، إذا تكلم هذا الخبير بالله، أثَّر في الناس، إذا قال: الحمد لله، لأبكى الأمة كلها، لماذا؟.
لأنه لا يتكلم بلسانه، إنما يتكلم بقلبه، وقبل أن يقول الكلمة، وقبل أن يتفوه بها يديرها في رأسه، هل يصح أن أقولها الآن أم أنتظر؟ لو قلتها الآن تكون مناسبة للمكان ولمشاعر الحضور؟ وإذا أفتيت بهذه الفتوى، هل هي دقيقة من الناحية الشرعية؟ هل سأحاسب عليها يوم القيامة؟ عندما يفكر في نفسه قبل أن يتكلم، سيرى أن تسعين في المائة من الكلام الذي سيقوله يقوله لا ينبغي أن يقوله.
وقد جربت هذا كثيرًا مع نفسي مجاهدًا إياها، عندما نكون في مكان وهناك موضوعات مثارة، وكلٌّ من الحضور يتبارى في استعراض عضلاته، وأنا أقول سأقول كذا، وبعد هذ أقول هل هذا الكلام يبيض وجهي يوم القيامة؟ ثم أسكت مع نفسي، وأغير الكلام مرة، واثنتين وثلاثة وأربعة، وتمر الساعة، لا أتكلم مطلقًا، كل كلام ابن آدم عليه.. إلا ذكر الله وما والاه، أي كلامك كله محسوب عليك، فإذا رأيت أحد الناس تسأله في الطب يجيبك، وفي الرياضة يجيب، وفي السياسة يجيب، وفي الدين أستاذ، وفي كل شيء مجيب مجيب، موسوعة معارف متنقلة، وهو ليس كذلك، ليس هناك أحد على وجه الأرض، يعلم بكل شيء، هذا غير موجود.
ولذا فإنه لا يجوز أن يتكلم أحد في دين الله بغير علم أو بالظن والتخمين، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ القرآنَ لم ينزلْ لتَضرِبوا بعضَه ببعضٍ، ولكن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، فما عرفتُم منه فاعمَلوا به، وما تشابه عليكم فآمِنوا به)).

الإفتاء بغير علمٍ حرام؛ لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله, ويتضمن إضلال الناس, وهو من الكبائر, لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33], فقرنه بالفواحش والبغي والشرك , ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)). من أجل ذلك كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري. ونقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومالك، وغيرهم, وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعود نفسه عليه, ثم إن فَعَل المستفتي بناءً على الفتوى أمرًا محرمًا أو أَدَّى العبادة المفروضة على وجه فاسد, حمل المفتي بغير علم إثمَه, إن لم يكن المستفتي قَصَّر في البحث عمن هو أهل للفُتيا , وإلا فالإثم عليهما.

تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض