مالك
بن دينار
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه
الواصفون، وأمره بين الكاف والنون، سبحان من علا فعلا، فهو على كل شيء قدير، سبح
{الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}. والصلاة والسلام على خير
الصائمين، وإمام القائمين، وسيد النبيين وخير الخلق أجمعين. في مدحه ماذا أقول
والله أعتق من سفاح الجاهلية أحمدا.
جاء كي يسرقنا فسرقناه. من
عاشوا بعد الموت. تمنيت رغيف خبز ولبنًا رائبًا أربعين سنة. إني لأشتهي أن أموت مثل الذرة لا لها ولا
عليها. هذه كلمات الإمام الحافظ مالك بن
دينار، الحافظ يعني: حافظ كل شيء في الحديث حافظ كل الأحاديث في التفسير، حافظ في
الفقه حافظ، عاش مالك بن دينار رحمه الله تعالى في القرن الثاني الذي كان مليئًا
بالتفتح الثقافي، وعاش فيه أكبر علماء الإسلام، وعلى رأس هذا القرن الإمام
الشافعي. وأكبر علم في القرن الأول عمر بن عبد العزيز، وفي القرن الثاني الإمام
الشافعي وكانت عصورا مليئة بالإنتاج العلمي الغزير.
ألّف الإمام الحافظ ابن أبي
الدنيا رحمه الله تعالى كتابًا اسمه "من عاشوا بعد الموت". يعني واحد
أدركته الوفاة مات ساعة، أو اثنين، ثم استيقظ بعد ذلك فكان الإمام ابن أبي الدنيا يذهب إليه ويسأله ماذا حصل لك؟
أين كنت؟ ماذا رأيت؟ جنة أو نار؟ أتمنى أن كل الناس تقرأ هذا الكتاب؛ لأنه يدخلك
إلى عالم الآخرة كأنك تعيشها.
كان والدي رحمه الله تعالى يحكي
لي من حوالي مائة سنة عن محمد الميت الذي مات لعدة ساعات، وبعد تكفينه والذهاب
لدفنه فإذا به يخرج من كفنه عند المقابر.
فذكر أهولا عجيبة وأشياء فيها عذاب وأشياء فيها نعيم، لكن معظم الذين
عاشوا بعد الموت كانوا من الصالحين. اللهم اجعلنا وإياكم من الصالحين.
كان الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا
رحمه الله تعالى مجاب الدعوة، ومن مؤلفاته: "مجابو الدعاء" وهو الذي
دفعني إلى هذه الدروس "مجابو الدعاء" وكنت أتصور أن الإمام الحافظ ابن
أبي الدنيا رحمه الله تعالى يذكر في كتابه الأعلام الكبار: أحمد بن حنبل سفيان
الثوري ابن المبارك كذا كذا، لكنه لم يفعل كذلك.
ذكر مواقف على مدى التاريخ
الإسلامي لأناس تعثرت الحياة لغيرهم، فأتى غيرهم إليهم فدعوا لهم، فأجابهم الله
تعالى في الحال. يعني فاق الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى الزمان في
علمه، وفي عطائه وكان له عند الله تعالى مكانة لا تبارى، لأنه تقدم في أنه عايش
مجابي الدعاء، ولذا يعدّ الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى من
المجددين في الإسلام، ومن السابقين إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه
وآله سلم.
ومهما تكلمنا عن هؤلاء الناس فقد أتم الله تعالى لهم بالحفظ والعلم
والسيادة فجعلهم الله أئمة الزمان والمكان.
يقول شيخ الإسلام الإمام الذهبي
عن ابن أبي الدنيا رضي الله عنهما: "وكان صاحب ذكاء خارق، وصاحب تفوق في
العلم والدين، والأدب بحيث لا يبارى، وكان إذا ذكر الشيء أمامه فإنه كان يجمعه كله
في لحظة واحدة". يعني ذهنه عبارة عن كمبيوتر، كلمة مثلا (فاستبقوا الخيرات)
يقوم يجمع لك كل كلمة (فاستبقوا الخيرات) في لحظة.
وهؤلاء ما علّمهم الله تعالى إلا
لنور بينهم وبين الله تعالى، لأن نور الله لا يهدى لعاص، فلما نوّروا الدنيا
بنورهم أسعد الله تعالى الناس بحياتهم. هذه مقدمة عن ابن أبي الدنيا ستأخذنا هذه
المقدمة إلى الإمام الكبير: مالك بن دينار.
قال عنه ابن الجوزي رحمه الله
تعالى في كتابه (صفة الصفوة) كلامًا يكاد يكون لا يصدق؛ لكثرة نورانيته وكثرة
بركته، وكثرة الإنعامات التي أنعم الله تعالى بها على الإمام مالك بن دينار. في
الجزء الثاني من (صفة الصفوة) يعني الصفوة عندما نصفيها يطلع (صفة الصفوة)
كالغربال ثم المنخل، فالصفوة كثير ولما صفاهم صار (صفة الصفوة).
كان مالك بن دينار رحمه الله
تعالى يعيش في البصرة، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة يكون في البصرة،
ويصلي مع الناس الظهر والعصر، وفي اليوم التاسع من ذي الحجة يكون في عرفات. وهذه
حاجات عالية والمسافة بين البصرة ومكة المكرم ثلاث آلاف كيلو متر. وهذه الكلام
لاحظناه مع ابن المبارك كان في بيته، ورغم هذا يحج حوالي سبع مرات الناس تخرج للحج
ويودعهم ثم يجدونه هناك.
ذات مرة كان مالك بن دينار رحمه
الله تعالى يقيم الليل، فدخل عليه أحد المتهجمين بالباطل، فقال له: يا مُرائي يا
منافق، فقال له: ما عرفني غيرك.
وقال: اشتهيت وتمنيت أن آكل خبزًا ولبنًا رائبًا أربعين سنة. فجيء له بها،
فقال: لقد غلبتك -يعني نفسه- أربعين سنة،
وتأتي اليوم لتغلبيني، والله لن آكلها أبدًا.
كانوا لهم سياسة في تحقير النفس، وهذا الذي أوصلهم إلى الله؛ لذا قال: ما
عرفني غيرك.
مرّ أمير البصرة بمالك بن دينار متبخترا ومترفلا في زينته، فصاح به مالك:
عدّل من مشيتك أو تواضع في مشيتك، فقال:
ألا تعرفني؟. فقال له مالك: أعرفك، أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، ثم
أنت بين ذلك تحمل العذرة. يعني القاذروات في بطنك. فتزلزل الرجل من كلامه وتاب من
كلامه([1]).
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
لم يكن في بيته شيء ويصلي في الظلام، وكان يستتر في الظلام ويأكل خبزا
ناشفا بخبز ناشف حتى لا يراه أحد. كان يظلم المكان بينما كان يصلي ذات ليلة إذ قفز
من أعلى البيت لص فظل يعسعس فلم يجد شيئا، وتركه يبحث ثم قال له: ادخل الحمام
وتوضأ وتعال كي أصلي بك ركعتين- حرامي محظوظ- فالرجل تزلزل وبكى فجاء وقت أذان
الفجر وقال له: هيا بنا نصلي في المسجد، فقال له: أنا عندي خمسون سنة لم أدخله من
قبل. والرجل كان مسجل خطر، وتعجب الناس الإمام الكبير يمشي مع حرامي، فدخل به
المسجد فالتف الناس حوله، وقالوا: ما القصة يا إمام؟ فقال: هذا الأخ جاء كي يسرقنا
فسرقناه. فحسنت توبته هذا اللص وتاب توبة عظيمة إلى الله رب العالمين.
اتسم هؤلاء القوم أنهم تجردوا لله تعالى؛ لذا لما تكلّم ابن أبي الدنيا في
كتابه (مجابي الدعاء) عن الإمام مالك بن دينار قال عنه الإمام الذهبي في (سير
أعلام النبلاء): وهو إمام الزاهدين في البصرة. وكانت البصرة في القرن الثاني
الهجري مليئة بالصالحين، ومنهم محمد بن واسع القائل: لو نودي سيدخل أهل البصرة
الجنة إلا واحدا لقلت: إن الواحد هذا هو أنا. رغم أنهم غيروا جغرافية المكان
والزمان لكثرة تعلّقهم بالله رب العالمين.
مالك بن دينار كان يقول: الناس
يستبطئون المطر أي: للاستسقاء، أما أنا فأنا أستبطئ الحجارة. أي: أخشى على الناس
أن السماء تنزل عليهم حجارة على رءوسهم لكثرة الفسق الذي يراه أمامهم.
عُرف عن هؤلاء يكون أحدهم في البصرة يوم الثامن من ذي الحجّة وفي عرفات
يوم التاسع أن لهم قدم صدق عند ربهم {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
(54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].
وذكر صاحب كتاب (المستغيثون بالله) أن مالك بن دينار ما رفع يديه إلى
السماء ورده الله قط. وذكر صاحب كتاب (لوامع الأنوار في طبقات الأخيار) أن مالك بن
دينار يعدّ من الدنيا طبقات الأخيار، والأبرار الذين لا يختلفون عن الصحابة كثيرا
سوى أنه لم يصاحب عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان مالك بن دينار ومن على شاكلته من الأخيار له حالة خاصة مع الله
وخبيئة خاصة مع الله؛ لأنهم كانوا إذا ناموا في ذكر، وإذا سهروا في ذكر، وكما رأيت
كان يقيم الليل في ظلام دامس، فأنار الله به وله وأضاء به الذين حوله. وما جلس
مجلس علم إلا بكى، وبكى الحاضرين.
وذات يوم دخل عليه رجل من أهل القرآن، فقال له: اقرأ علي فقرأ عليه:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 1
- 8] فبدأ يبكي ويرتعد، وينتفض كلما قرأ الرجل عليه آية، حتى مات.
لذا ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب آخر اسمه (شهداء القرآن) أن مالك بن
دينار من شهداء القرآن، فأي ناحية تلمسته في الدعاء أستاذ، في الفقه أستاذ.
فاللهمّ علّمنا كما علّمتهم، نوّرنا كما نوّرتهم، وأخلص قلوبنا لك. اللهم
زودنا بالتقوى واجعل غايتنا رضاك، اللهم افتح لنا ولكم ألف ألف باب من فتوحات الخيرات
في الحياة وقبل الممات وبعد الممات.
اللهم اذكرنا الآن في الملأ الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم أسمعنا عن أحبابنا وأبنائنا خيرا عميما وفرجا
قريبا. إلهي سيدي مولاي يا نعم المولى ونعم المصير إنا في حاجة إلى عفوك وإلى
عافيتك فاعف عنا الآن، وسامحنا وانصرنا الآن وأيدنا الآن، واجعل لنا ولكم ألف ألف
باب من أبواب الفرج.
أقسم بك عليك يا الله لا تفرق جمعنا هذا إلا وقد غسلتنا وهديتنا ونورتنا
وأسعدتنا. اللهم صبّ اليقين في قلوبنا وصبّ عافيتك في قلوبنا لا تجعل بيننا ولا
فينا شقيا ولا تعيسا، ولا مطرودا من رحمتك. اللهم أعنا على إدامة الخيرات والطيبات
وانفعنا، وانفحنا بالبركات والكرامات. اللهم كما كرمتهم فكرمنا، وكما نورتهم
فكرمنا، وكما أسعدتهم فأسعدنا، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين. {إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. صلى الله عليه
وسلم.
الحمد لله ربّ العالمين، لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، وأمره بين الكاف والنون، سبحان من علا فعلا، فهو على كل شيء قدير، سبح {الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}. والصلاة والسلام على خير الصائمين، وإمام القائمين، وسيد النبيين وخير الخلق أجمعين. في مدحه ماذا أقول والله أعتق من سفاح الجاهلية أحمدا.
جاء كي يسرقنا فسرقناه. من عاشوا بعد الموت. تمنيت رغيف خبز ولبنًا رائبًا أربعين سنة. إني لأشتهي أن أموت مثل الذرة لا لها ولا عليها. هذه كلمات الإمام الحافظ مالك بن دينار، الحافظ يعني: حافظ كل شيء في الحديث حافظ كل الأحاديث في التفسير، حافظ في الفقه حافظ، عاش مالك بن دينار رحمه الله تعالى في القرن الثاني الذي كان مليئًا بالتفتح الثقافي، وعاش فيه أكبر علماء الإسلام، وعلى رأس هذا القرن الإمام الشافعي. وأكبر علم في القرن الأول عمر بن عبد العزيز، وفي القرن الثاني الإمام الشافعي وكانت عصورا مليئة بالإنتاج العلمي الغزير.
ألّف الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى كتابًا اسمه "من عاشوا بعد الموت". يعني واحد أدركته الوفاة مات ساعة، أو اثنين، ثم استيقظ بعد ذلك فكان الإمام ابن أبي الدنيا يذهب إليه ويسأله ماذا حصل لك؟ أين كنت؟ ماذا رأيت؟ جنة أو نار؟ أتمنى أن كل الناس تقرأ هذا الكتاب؛ لأنه يدخلك إلى عالم الآخرة كأنك تعيشها.
كان والدي رحمه الله تعالى يحكي لي من حوالي مائة سنة عن محمد الميت الذي مات لعدة ساعات، وبعد تكفينه والذهاب لدفنه فإذا به يخرج من كفنه عند المقابر.
فذكر أهولا عجيبة وأشياء فيها عذاب وأشياء فيها نعيم، لكن معظم الذين عاشوا بعد الموت كانوا من الصالحين. اللهم اجعلنا وإياكم من الصالحين.
كان الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى مجاب الدعوة، ومن مؤلفاته: "مجابو الدعاء" وهو الذي دفعني إلى هذه الدروس "مجابو الدعاء" وكنت أتصور أن الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى يذكر في كتابه الأعلام الكبار: أحمد بن حنبل سفيان الثوري ابن المبارك كذا كذا، لكنه لم يفعل كذلك.
ذكر مواقف على مدى التاريخ الإسلامي لأناس تعثرت الحياة لغيرهم، فأتى غيرهم إليهم فدعوا لهم، فأجابهم الله تعالى في الحال. يعني فاق الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى الزمان في علمه، وفي عطائه وكان له عند الله تعالى مكانة لا تبارى، لأنه تقدم في أنه عايش مجابي الدعاء، ولذا يعدّ الإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى من المجددين في الإسلام، ومن السابقين إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم.
ومهما تكلمنا عن هؤلاء الناس فقد أتم الله تعالى لهم بالحفظ والعلم والسيادة فجعلهم الله أئمة الزمان والمكان.
يقول شيخ الإسلام الإمام الذهبي عن ابن أبي الدنيا رضي الله عنهما: "وكان صاحب ذكاء خارق، وصاحب تفوق في العلم والدين، والأدب بحيث لا يبارى، وكان إذا ذكر الشيء أمامه فإنه كان يجمعه كله في لحظة واحدة". يعني ذهنه عبارة عن كمبيوتر، كلمة مثلا (فاستبقوا الخيرات) يقوم يجمع لك كل كلمة (فاستبقوا الخيرات) في لحظة.
وهؤلاء ما علّمهم الله تعالى إلا لنور بينهم وبين الله تعالى، لأن نور الله لا يهدى لعاص، فلما نوّروا الدنيا بنورهم أسعد الله تعالى الناس بحياتهم. هذه مقدمة عن ابن أبي الدنيا ستأخذنا هذه المقدمة إلى الإمام الكبير: مالك بن دينار.
قال عنه ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (صفة الصفوة) كلامًا يكاد يكون لا يصدق؛ لكثرة نورانيته وكثرة بركته، وكثرة الإنعامات التي أنعم الله تعالى بها على الإمام مالك بن دينار. في الجزء الثاني من (صفة الصفوة) يعني الصفوة عندما نصفيها يطلع (صفة الصفوة) كالغربال ثم المنخل، فالصفوة كثير ولما صفاهم صار (صفة الصفوة).
كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يعيش في البصرة، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة يكون في البصرة، ويصلي مع الناس الظهر والعصر، وفي اليوم التاسع من ذي الحجة يكون في عرفات. وهذه حاجات عالية والمسافة بين البصرة ومكة المكرم ثلاث آلاف كيلو متر. وهذه الكلام لاحظناه مع ابن المبارك كان في بيته، ورغم هذا يحج حوالي سبع مرات الناس تخرج للحج ويودعهم ثم يجدونه هناك.
ذات مرة كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقيم الليل، فدخل عليه أحد المتهجمين بالباطل، فقال له: يا مُرائي يا منافق، فقال له: ما عرفني غيرك.
وقال: اشتهيت وتمنيت أن آكل خبزًا ولبنًا رائبًا أربعين سنة. فجيء له بها، فقال: لقد غلبتك -يعني نفسه- أربعين سنة، وتأتي اليوم لتغلبيني، والله لن آكلها أبدًا.
كانوا لهم سياسة في تحقير النفس، وهذا الذي أوصلهم إلى الله؛ لذا قال: ما عرفني غيرك.
مرّ أمير البصرة بمالك بن دينار متبخترا ومترفلا في زينته، فصاح به مالك: عدّل من مشيتك أو تواضع في مشيتك، فقال: ألا تعرفني؟. فقال له مالك: أعرفك، أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، ثم أنت بين ذلك تحمل العذرة. يعني القاذروات في بطنك. فتزلزل الرجل من كلامه وتاب من كلامه([1]). اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
لم يكن في بيته شيء ويصلي في الظلام، وكان يستتر في الظلام ويأكل خبزا ناشفا بخبز ناشف حتى لا يراه أحد. كان يظلم المكان بينما كان يصلي ذات ليلة إذ قفز من أعلى البيت لص فظل يعسعس فلم يجد شيئا، وتركه يبحث ثم قال له: ادخل الحمام وتوضأ وتعال كي أصلي بك ركعتين- حرامي محظوظ- فالرجل تزلزل وبكى فجاء وقت أذان الفجر وقال له: هيا بنا نصلي في المسجد، فقال له: أنا عندي خمسون سنة لم أدخله من قبل. والرجل كان مسجل خطر، وتعجب الناس الإمام الكبير يمشي مع حرامي، فدخل به المسجد فالتف الناس حوله، وقالوا: ما القصة يا إمام؟ فقال: هذا الأخ جاء كي يسرقنا فسرقناه. فحسنت توبته هذا اللص وتاب توبة عظيمة إلى الله رب العالمين.
اتسم هؤلاء القوم أنهم تجردوا لله تعالى؛ لذا لما تكلّم ابن أبي الدنيا في كتابه (مجابي الدعاء) عن الإمام مالك بن دينار قال عنه الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء): وهو إمام الزاهدين في البصرة. وكانت البصرة في القرن الثاني الهجري مليئة بالصالحين، ومنهم محمد بن واسع القائل: لو نودي سيدخل أهل البصرة الجنة إلا واحدا لقلت: إن الواحد هذا هو أنا. رغم أنهم غيروا جغرافية المكان والزمان لكثرة تعلّقهم بالله رب العالمين.
مالك بن دينار كان يقول: الناس يستبطئون المطر أي: للاستسقاء، أما أنا فأنا أستبطئ الحجارة. أي: أخشى على الناس أن السماء تنزل عليهم حجارة على رءوسهم لكثرة الفسق الذي يراه أمامهم.
عُرف عن هؤلاء يكون أحدهم في البصرة يوم الثامن من ذي الحجّة وفي عرفات يوم التاسع أن لهم قدم صدق عند ربهم {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].
وذكر صاحب كتاب (المستغيثون بالله) أن مالك بن دينار ما رفع يديه إلى السماء ورده الله قط. وذكر صاحب كتاب (لوامع الأنوار في طبقات الأخيار) أن مالك بن دينار يعدّ من الدنيا طبقات الأخيار، والأبرار الذين لا يختلفون عن الصحابة كثيرا سوى أنه لم يصاحب عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان مالك بن دينار ومن على شاكلته من الأخيار له حالة خاصة مع الله وخبيئة خاصة مع الله؛ لأنهم كانوا إذا ناموا في ذكر، وإذا سهروا في ذكر، وكما رأيت كان يقيم الليل في ظلام دامس، فأنار الله به وله وأضاء به الذين حوله. وما جلس مجلس علم إلا بكى، وبكى الحاضرين.
وذات يوم دخل عليه رجل من أهل القرآن، فقال له: اقرأ علي فقرأ عليه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 1 - 8] فبدأ يبكي ويرتعد، وينتفض كلما قرأ الرجل عليه آية، حتى مات.
لذا ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب آخر اسمه (شهداء القرآن) أن مالك بن دينار من شهداء القرآن، فأي ناحية تلمسته في الدعاء أستاذ، في الفقه أستاذ.
فاللهمّ علّمنا كما علّمتهم، نوّرنا كما نوّرتهم، وأخلص قلوبنا لك. اللهم زودنا بالتقوى واجعل غايتنا رضاك، اللهم افتح لنا ولكم ألف ألف باب من فتوحات الخيرات في الحياة وقبل الممات وبعد الممات.
اللهم اذكرنا الآن في الملأ الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم أسمعنا عن أحبابنا وأبنائنا خيرا عميما وفرجا قريبا. إلهي سيدي مولاي يا نعم المولى ونعم المصير إنا في حاجة إلى عفوك وإلى عافيتك فاعف عنا الآن، وسامحنا وانصرنا الآن وأيدنا الآن، واجعل لنا ولكم ألف ألف باب من أبواب الفرج.
أقسم بك عليك يا الله لا تفرق جمعنا هذا إلا وقد غسلتنا وهديتنا ونورتنا وأسعدتنا. اللهم صبّ اليقين في قلوبنا وصبّ عافيتك في قلوبنا لا تجعل بيننا ولا فينا شقيا ولا تعيسا، ولا مطرودا من رحمتك. اللهم أعنا على إدامة الخيرات والطيبات وانفعنا، وانفحنا بالبركات والكرامات. اللهم كما كرمتهم فكرمنا، وكما نورتهم فكرمنا، وكما أسعدتهم فأسعدنا، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. صلى الله عليه وسلم.