بسم الله الرحمن الرحيم
هذا جزء أصيل من تاريخ الإسلام، وهو رحمة المسلمين على مدى عهودهم بأهل الكتاب
وظهرت تجليات هذه الرحمة ميدانيًا في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، عندما تحدثت في العمريات عما فعله عمر بن الخطاب من إنصاف لأهل الكتاب
أولاً: من لم يقدر على دفع الجزية كان عمر يسقط الجزية عنه وجعل لكل فقير ضعيف عجوز أو مسنٍ راتبًا من بيت المال، ولا يكلفهم فوق طاقتهم
الجزية في الإسلام لمن يعلم ومن لا يعلم ليست عقابا على المخالفة في الديانة
، يعني لو قلنا مثلا: ستأتي دولة وتقول ستعفي جميع الأبناء غير المسلمين من القتال أو الجهاد أو الخدمة العسكرية في مقابل دفع ألف جنيه، هو ده بالظبط كدة فكانوا بيدفعوا الجزية مقابل تأمينهم يعني الجزية مقابل الأمن وليس عقوبة على المسيحية أواليهودية
مرة ثانية الجزية مقابل الأمن وليست عقوبة على اليهودية أو المسيحية
ظل العهد جميلاً في عهد سيدنا عمر بن الخطاب من إكرام أهل الذمة بكل وسيلةٍ
وظل هذا الكرم إلى أيام سيدنا علي بن أبي طالب الذي أنصف أهل الذمة وعفا عن كثير منهم من الجزية التي كانوا يعطونها وكان لا يفرق الإمام علي في التعامل بين أهل الذمة وبين المسلمين في الحقوق والواجبات
إلى أن تمكن معاوية من الخلافة بعز عزيز أو بذل ذليل برضا أو بغير رضا. المهم آلت الخلافة إليه، فتغير النظام تمامًا
والتغيير هذا أدى إلى سخط غير المسلمين على الإسلام
يعني مثلاً هنأخذ مثالا مما فعله معاوية مع أهل مصر، أهل مصر يعني الأقباط، أرسل معاوية خطابًا إلى أميره على مصر وكان اسمه وردان:
يقول له يا وردان: زد على كل رجل من القبط قيراط (يعني زود عليه فلوس) في السنة، فكتب إليه وردان معترضا لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
كيف تزيد عليهم يا أمير المؤمنين وفي عهدهم أي في عهد بيننا وبينهم مكتوب أنه لا يزاد عليهم؟
يعني ما تم إقراره أيام عمر بن العاص في وثيقة الصلح بين العرب وبين القبط أنه لا يزاد عليهم، فعزله معاوية وانتصر معاوية لرأيه
فأمر بالزيادة، وأصر وردان على عدم الزيادة فعزله معاوية ثم جرت زيادة أخرى على القبط في مصر في عهد عبد الملك بن مروان
فأمر واليه في مصر عبد العزيز بن عمر أمر واليه في مصر بأن يرفع (يزود يعني) الجزية على الأقباط في مصر، طبعا مادامت هذه رغبة الحاكم حتى لا يجري عليه مثلما جرى على وردان سمعنا وأطعنا
نفس هذه المظلمة وقعت على الأقباط في مصر يعني النصارى رغم أن كلمة القبطي غير النصارى (لن أدخل فيها)
نفس المظلمة وقعت على نصارى الشام، النصارى في الشام تمت الزيادة عليهم أيام معاوية بن أبي سفيان ثم تمت الزيادة عليهم بعد ذلك
كذلك أهل نجران (نجران حاليا محافظة في السعودية الحبيبة) أمر بالزيادة على المسيحيين في نجران أضعاف مضاعفة ما كانوا يدفعونه من قبل
طبعا هذه التصرفات تعد ظلمًا لأهل الكتاب لأنهم لم يألفوا هذه الزيادة ولا هذا القسر في معاملاتهم
أولاً: كانوا يمنعونهم من الأرض، من خراج الأرض أو من خير الأرض ونفس الكلام كان على النصارى في اليمن فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة انظروا ماذا فعل؟
كان الظلم كان ازداد قبل خلافته، فلما ولي الخلافة قال: فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزية اليوم وخالط المسلمين في دارهم
وفارق داره التي كان بها فإن له ما للمسلمين، يا سلام! وعليه ما عليهم وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه، غير أن أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة
لكن أرسل رسالة أخرى إلى أمير خراسان بيقول له: انظر إلى أهل الذمة غير القادرين فضع عنهم الجزية
، وبالتالي صارت هذه السياسة العمرية التي أعادت الحق إلى غير المسلمين بحيث هم المؤلفة قلوبهم يعني الذين دخلوا في الإسلام حديثا أو على وشك الدخول في الإسلام
قبرص أيامها كانت ولاية إسلامية ولما فتحها معاوية بن أبي سفيان أيام سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه كاتب أهلها على الجزية
الكتابة معناها وثيقة لا أحد يزيد عليها ولكنهم لم يحترموا يعني بني أمية هذا الاتفاق
انظر: كان معاوية قد صالح أهل قبرص على سبعة آلاف دينار وزالوا على هذا الحال حتى ولي عبد الملك بن مروان الخلافة
فزاد عليهم ألف دينار فلما ولي عمر الخلافة أسقط عنهم الألف دينار عن المسلمين في قبرص، نفس الكلام أهل الذمة في العراق زاد عبد الملك بن مروان عليهم في الجزية فلما ولي عمر الخلافة أنزل وأسقط ما كان زائدًا
وكتب عمر إلى عدي إلى أرطاف عامله على البصرة
أما بعد: فأن الله تعالى أمر أن تؤخذ الجزيةُ ممن رغب عن الإسلام يعني: لم يدخل في الإسلام واختار الكفر عنه وخسر خسرانا مبينا، ورغم هذا
قال له ضع الجزية على من لم يقدر عليه وخلي بينهم وبين عمارة الأرض يعني لا مانع أن المسيحيين يعمرون الأرض ويزرعون وهكذا، وكان هذا ممنوعًا عليهم من قبل
فإن في ذلك صلاحًا لمعاش المسلمين وقوةً على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوكًا كبرت سنه
وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق
وبلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ بأهل الذمة (عمر الكبير يعني جده عمر بن الخطاب) مر بشيخ
كلمة شيخ يعني مش شيخ زيي كدة لا راجل كبير يعني
مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس يعني شحاذ يشحت فقال ما أنصفناك
إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك يعني في عطائك في شبابك ثم ضيعناك في كبرك ثم أجرى عليه عمر الفاروق من بيت المال ما يصلحه
بل بلغ به العدل يعني عمر بن عبد العزيز في إنصاف أهل الذمة أنه كتب إلى عامله بالكوفة
انظر من كانت عليه جزية فضعفت عن أرضه يعني لم يقدر على الدفع الأرض تلفت فأسلفه ما يقوى على عمل أرضه فإنا لا نريدهم لعام ولا عامين
وكتب إلى عاملة بالموصل نفس الكلام في العراق على الرحمة بأهل الذمة وإسقاط الجزية على غير القادرين
تلاحظ شيئا غريبًا فظيعًا جدا لعلي أشرت إليه في الدرس السابق أن خلفاء بني أمية لم يسقطوا الجزية عمن أسلم، يعني المفروض الجزية لغير المسلمين أو من اختاروا الكفر فمن أسلم تسقط الجزية عنه
ولكنهم مبالغة في الظلم فكان الحجاج بن يوسف الثقفي يفرض الجزية على من أسلم بل يزيدها كمان، طبعا وكل هذا لم يكن في صالح الإسلام ولا في صالح المسلمين
ستلاحظ ملحوظة مهمة جدا، أن أمير المؤمنين مراعاة لظروف الناس كان يأخذ الثمار من الفلاحين ويكلف من يسعرونها دون ظلم أو دون جيف بحيث تكون متاحة للناس
وكان هناك مجموعة من المحاسبين، واحد محاسب، المحاسب ده مأمور ضرائب يقوم بجمع الخراج
قبل عمر بن عبد العزيز إذا اعتذر فلاح عن دفع الخراج يحبس، في عهد عمر من اعتذر عن دفع الخراج عفى عنه فإذا ما يسر الله عليه وأراد الفلاح أو المزارع أن يدفع ما لم يدفعه العام الماضي
أضف إلى ذلك أنه أمر عماله الذين يجمعون الضرائب أنهم لا يتعنتوا مع الناس وأن كل يدفع على قدر فاقته وعلى قدر استطاعته حتى إذا لم يدفع فليس هناك مشكلة
أيضًا نعود إلى المظالم مع أهل الذمة، ومما أصاب أهل الذمة من المظالم قبل عهد عمر بن عبد العزيز سبي (السبي الأخذ بعنف)
سبي بنات ونساء من شمال إفريقيا والإتيان بهم إلى الشام يعني كلام لا أحب أن أشرحه لأنه كلام سيء
فلما ولي عمر الخلافة رد هذه المظالم وأرجع البنات إلى أهلهم لحراس، استحلال ما ليس لك حرام شرعًا
ومن قومك فإنه يساعدك على طاعة الله عز وجل. طبعا كلام مهم جدا وربما نسمعه لأول مرة
طبعا قضية الرق التي حاول عمر إبطالها مع النساء في أفريقيا مسألة مهمة جدا
كما أرجع عمر بن عبد العزيز إلى أهل الذمة كل أرض أو كنيسة أو بيت اغتصب منهم
فقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن عمر أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها
فقام إليه رجل من حمص من أهل الذمة أبيض الرأس واللحية فقال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال وما ذاك؟
قال اغتصبني العباس بن الولي بن عبد الملك أرضي يعني أخذ أرضي والعباس جالس فقال له ما تقول يا عباس؟ قال أقطعني إياها مجاملة أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وكتب لي بها سجلًا يعني أمير المؤمنين ظلم وأخذ أرض ظلما وأهداها لمن لا يستحق
فقال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد اردد عليه أرضه يا عباس (فعل أمر) فردها عليه في الحال، يا سلام يا سلام
وكان هناك رجل نصراني أتى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وادعى على هشام بن عبد الملك أن له في يده ضيعة له فقال عمر لهشام قم مع خصمك فقال بل أوكل وكيلا بخصومتي
قال: لا، اجلس أمامي مع من ظلمت فجعل هشام ينتهر خصمه، فقال له عندي لا ينتهر أحد إن عدت عاقبتك، المهم جرى الحوار بين النصراني وبين هشام حتى أثبت النصراني حقه فرده عمر بن عبد العزيز إلى النصراني مرة ثانية
وهذه القوة في الحق في الانتصار للنصارى تعكس سلامة العقيدة وسلامة العدل وحسن الظن بالناس
اختلفوا على كنيسة في دمشق كان فلان قطعها لبني نصر في دمشق (يعني كان في كنيسة أحد الأمراء أخذها وأعطاها لأحد وسكن فيها بني نصر
فلما تولى عمر الخلافة ردها إليه فلما مات عمر وتولى الخلافة يزيد بن عبد الملك أخذها من النصارى وردها إلى بني نصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعندما تولى عمر الخلافة استقر في دمشق وعين اثنى عشر بطريقا من الروم يعني أتوا من الروم قساوسة من الروم
وأقاموا في دمشق استقبلهم وهم ليس أهلها فجعل لهم منازل ومساكن ورواتب، القساوسة من بلاد الروم، طبعا هذا العدل عدل سماوي ربما لم يسمع أحد مثله من قبل
اسمع هذه المفاجأة رد عمر بيوت النصارى إليهم التي أخذها من كانوا قبلهم يروي أبو عبيدة أن الوليد بن هشام المعيطي
قال: ولاني عمر بن عبد العزيز قنصرين إمارة اسمها قنصرين فشكا إلي أهل الذمة المسلمين أنهم قد أخذوا منازلهم
فكتب إليه عمر أن انظر إلى من كانوا في منازل أولئك الذين كانوا من أهلها حين صولحوا فأخرج من كان فيها وأرجع منازلهم إليهم
إذا قلت العدل يمشي على قدميه فعلا يمشي على قدميه
في كنائس استولى عليهم أهل الشام بقوتهم وسلطانهم وبمساندة بني أمية لهم وأخذوها أو حولوها مساجد
فلما تولى عمر الخلافة أرجعها إلى أهلها وإن كانت مسجدا أعاده إلى أهله فتحول كنيسة مرة ثانية. العدل
كان أيضًا هناك طائفة تسمى المسخرة من أهل الذمة أي: الذين يقومون بتسيير مصالح الناس يسخروا عندي
فلما تولى عمر الخلافة رضي الله عنه قال يوضع السخر عن أهل الأرض فإن هذا ظلم ولا ينبغي أن يكون موجودا
بهذه القرارات السيادية ساد الأمن والعدل والسكينة والطمأنينة والإنصاف في بلاد المسلمين
واستشعر النصارى أن لهم ظهرا ظهيرا وأن لهم سند وأن أهل الذمة يعاملون برحمة عظيمة، ولكن للأسف جميع الإصلاحات التي جعلها عمر بن عبد العزيز خاصة في الجوانب المالية بالذات
لما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة للأسف أعاد الظلم مرة ثانية، أي أن الأمة الإسلامية لم تتنعم بالحرية الكاملة إلا في عامين وخمسة أشهر وهي الخلافة العمرية التي ملأت الأرض عدلاً بعد أن ملئت زورا تلك الأيام نداولها بين الناس.
إن عمر وأمثاله يدخلون في قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)" المؤمنون