الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وغياث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات يؤوب إلى رحمته.
سبحان من سبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، "وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)".
وأشهد أن لا إله إلا الله، بيده الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، سيرته خير السير، وعترته خير العتر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما أحاط به علمك، وجرى به قلمك، وشهدت به ملائكتك، وأحصاه كتابك.
الخطبة الثالثة والسبعون: دعوات مهلكات.
كما أن الله تعالى يستجيب لعباده الصالحين، وعلى رأسهم الأنبياء، ما من نبي دعى الله عز وجل إلا قال الله له: فاستجبنا له، وفي نفس الوقت ما من نبي دعى على قومه إلا استجاب الله له . "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)".
بعد أن قتلوا الناقة قال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. في اليوم الأول احمرت وجوههم، وفي اليوم الثاني ازرقت وجوههم، وفي اليوم الثالث اسودّت وجوههم، وفي اليوم الرابع أرسل الله تعالى عليهم عاصفة اجتثتهم فما بقي منهم أحد.
إن الله تعالى وعد المؤمنين بالتأييد، عندما اشتد إيذاء قريش بسيدنا، قال: "اللهم عليهم بسنين كسنين يوسف"، "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)".
فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليهم بسنين كسنين يوسف".
فبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الله إلى قريش دخانا أهلكهم، ما بقي لهم زرع، وما بقيت لهم ماشية، ضاقت بهم الصدور، وزاغت بهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فأرسلوا اثنين إلى سيدنا صلى الله عليه وسلم، وظنوا أنه سيكسر بخاطرهم، فكان مثالا في التسامح، فدعى النبي لهم في الحال فرفع الله عنهم.
ساعة أن دعى عليهم استجاب الله لهم، وساعة أن دعى لهم استجاب الله له.
ولو يعجل الله للناس الشر
"وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)". لو أ الله تعالى يستجيب للناس في حالة الشر، ما بقي أحد على وجه الأرض.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، فربما وافق ذلك ساعة إجابة".
وقد دعت إحدى الأمهاب على ابنها الذي أغضبها دعوة صعيبة، فخرج وبعد ربع ساعة أتى خبره ميتا.
"وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)".
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير
ولذاالإنسان لا يدعو بالشر أبدا، لا حرج أن تدعو على الظالم، ولكن احذر الدعاء على أقرب الناس إليكم، وعلى أحب الناس إليكم.
نماذج للدعوات المهلكات
سيدنا نوح الذي ظل يدعو قومه قرابة الألف سنة، وكل جيل يتواصى مع الجيل الذي بعده، أن يعذبوه، ظلوا ألف سنة على هذا الحال، فلما يئس دعى عليهم دعوة فتحت لها أبواب السماء. "وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)" ثم دعى بعد هذا لقومه المؤمنين الذين آمنوا معه.
لماذا دعى عليهم نوح عليه السلام؟ لأنه على مدى ألف سنة إلا خمسين عاما لم يجد منهم استجابة، فبلغ اليأس به مبلغا، ولا بديل إلا من التخلص من هذا الشعب الكافر كله، . "وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)".
تحقيق هذه الأمنية الصعبة كان يحتاج إلى مائة سنة، وظل يصنع السفية، بدأ يزرع أشجارا وينتظر حتى تكبر، وهكذا.
"فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ" (القمر: 9- 16).
تم العثور على جبل في تركيا اسمه الجودي، وتم العثور على السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام قبل خمسين ألف سنة.
وكما دعى نوح على قومه، واستجاب الله له، أتى الطوفان، وهذا الطوفان مذكور في التوراة والإنجيل والقرآن.
سيدنا نوح كما دعى على قومه استجاب الله له، ودعى أيضا لقومه.
"رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)".
استجاب الله لسيدنا نوح عليه السلام لما اجتمع أهل السفينة في السفينة، ولم يركب مع سيدنا نوح إلا الذين آمنوا معه، وكانوا قلة، "وما آمن معه إلا قليل".
وبعد سيدنا نوح أتى الأنبياء كلهم يدعون على أقوامهم بعد أن يئسوا منهم، حتى أتى نبي الله موسى عليه السلام، حيث اشتد عليه الألم والإيذاء، "وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)". وبالفعل جميع المال الذي عندهم انتهى، وازدادوا سوادا وقبحا، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فأرسل الله عليهم تسع آيات مفصلات.
"وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)".
لأن هارون كان يدعو ويقول آمين، فجعل الله المؤمَّن في منزلة الداعي.
"قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)".
الخطبة الأخرى
الحمد لله رب العالمين، لا عز إلا في طاعتك، ولا نعيم إلا في رضاك، ولا سعادة إلا في التذلل بين يدي عظمتك، والصلاة والسلام على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وصاحب الشفاعة العظمى، نور الكمال وكمال النور، ومهبط الأنوار، ومجمع الأسرار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم وعلى أولادكم ولا على أموالكم ولا على أهليكم فربما وافق ذلك ساعة إجابة" لا تسلم نفسك لأمواج الغضب، فإنها مهلكة، فإنها مضرة، فإنها مفسدة، حتى لا تبقى العمر كله حزينا.
احذر زلات اللسان فإنها تجرح، احذر زلات الدعاء فإنها تجرح، احذر أمواج الغضب فإنها مهلكة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: اجمع لي الإسلام، فقال له: "لا تغضب".
دعاء بالخير لا بالشر
يا أرحم الراحمين، يا مجيب دعوة المضطرين، يا سامع النجوى، يا كاشف البلوى، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، أقسم بك عليك يا الله، اجعل دخلة رمضان فرجا علينا، بالخير والخيرات والبركانت، والطيبات، وصلاح الحال والبال، والقبول والتيسر وسعة الأرزاق، والأخلاق.
يا ذا الجلال والإكرام، اجعل دعاءنا كله خيرا، افتح لرجائنا أبواب السماء، وافتح لدعائنا رحابك، فما أوسع رحابك، لا تجعلنا من الخاطئين في الدعاء على أولادنا وزوجاتنا وأموالنا، حتى لا يحل علينا سخطك.
اجعلنا من الداعين بالخير، ومن الساعين إلى الخير، ومن المتعجلين في طلب الخير، "وعجلت إليك رب لترضى".
اجعل في وجوهنا نورا، وفي أسماعنا نورا، وفي أبصارنا نورا، ومن فوقنا نورا، وعن أيماننا نورا، وعن شمائلنا نورا، واجعلنا نورا، وسعينا نورا، وختامنا نورا، نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخط والنار، اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها.
"رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41).