(عناية اللفظ القرآني بالفروق المعجمية بين الألفاظ، ومناسبته للسياق ومقاماته)

الرئيسية المقالات مقالات دينية

(عناية اللفظ القرآني بالفروق المعجمية بين الألفاظ، ومناسبته للسياق ومقاماته)

(عناية اللفظ القرآني بالفروق المعجمية بين الألفاظ، ومناسبته للسياق ومقاماته)

إن الناظر في القرآن الكريم يلحظ بعد طول مؤانسته له أنَّ القرآن الكريم يراعي بدقة الفروق المعجمية بين الكلمات بعضها وبعض موافقا للسياق الوارد فيه الكلمة ومناسبا له، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النور:27].

والناظر في الآية السابقة يلحظ أنَّ هناك مفاضلة بين كلمتي: [تستأنسوا – تستأذنوا]؛ فقد وردت كلمة: [ تستأنسوا ] في قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور:27].

قال الآلوسي: [ حتى تستأنسوا ] أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها، وقال الزمخشري: "تستأنسوا" فيه وجهان:

·          أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلال الاستيحاش، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم.

·          الآخر: أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف؛ أي تعرفت واستعملت.

نخلص مما سبق إلى أنَّ معنى الاستئناس الوارد بالآية ليس مجرد معنى الاستئذان كما خُيّل للقائلين بذلك، وإنما هو حس الإيناس لأهل البيت قبل دخوله؛ إذ إنَّ كلمة [ الاستئناس ] تحمل دلالات ومعانٍ كثيرة لا يمكن التعويض عنها بكلمة واحدة أو لفظة واحدة، فهي تحمل في طياتها معانى الاستعلام والاستئذان والاستكشاف الذي يحدث بطرق وأشكال عدة، منها: [ التنحنح /التكبير/ السلام على أهل البيت] وهكذا.

ونحن إن أردنا ملاحظة ذلك بكثرة لوجدنا القرآن الكريم يمتلأ بشواهد كثيرة، ومما وقعت عليه أفئدتنا من مراعاة اللفظ القرآني للفروق المعجمية، قوله تعالى:﴿ وَمَآ أَنتَ بِمؤمن لَنَا ولو كُنَا صَادقينَ﴾ [يوسف:17]؛ إذ نلاحظ إيثار كلمة [ مؤمن ] على نظائرها، مثل: [ مؤمن / مصدق، وغيرهما ]؛ حيث تفيد من المعنى ما لا تفيده لو قال: (بمصدق لنا ولو كنا صادقين)، وذلك لأن قوله: (بمؤمن لنا)، أي: لست مصدقًا لنا تصديق يقين واطمئنان وركون لما نقول حتى لو علمت أن كلامنا يوافق الواقع، فلو أنه جاء بلفظة (بمصدق) بدل لفظه (بمؤمن)؛ لذهب هذا المعنى، مع أن اللفظين تشتركان في معنى التصديق.

ومن ذلك - أيضا - الفارق بين بضع كلمات وردت في القرآن، وهي: [ الضَعف / الضُعف / الوهن / الاستكانة ]، وفيها يقول

يقول أبو هلال العسكري في كتابه الماتع: "الفروق اللغوية": الفرق بين الضَعف والضُعف: أن (الضُعف) بالضم يكون في الجسد خاصة، وهو من قوله تعالى:﴿خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾[الروم:54]، بينما (الضَعف) بالفتح يكون في الجسد والرأي والعقل، كأن يُقال: في رأيه ضَعف ولا يقال فيه ضُعف.

أما الفرق بين الضعف والوهن: أنَّ الضَّعف ضد القوة وهو من فعل الله تعالى، ومنه قوله تعالى:﴿وَخُلقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28]، أما الوهن فهو أن يفعل الإنسان فعل الضعيف، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾[آل عمران:139]،  أي لا تفعلوا أفعال الضعفاء وأنتم أقوياء على ما تطلبونه بتذليل الله إياه لكم)، ويجوز أن يقال إن الوهن هو انكسار الحد والخوف ونحوه، والضعف نقصان القوة.

أما مصطلح الاستكانة فقد قيل عنه: إنه إظهار الضعف والميل إلى التخاذل، وفيه يقول عز وجل: ﴿ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استَكَانُوا﴾ [آل  عمران:146 ].

ومن ذلك - أيضا - الفارق بين كلمتي: [ سبل – فجاج ]، يقول عز وجل:﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾[ طه:53]؛ فقوله:[سُبلاً] تدل على كل سبيل مُتخلل في الأرض يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض أو كان من أثر فعل (الناس)، وفي ذلك كناية عن كثرتها في الأرض، وقد قيل: إنَّ "السبل:الطرق، والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة"، وقيل كذلك: إنَّ الفج هو: الطريق الواسع.

نخلص مما سبق إلى أنَّ كلمة: [ السبل ] وهي جمع سبيل، هي: طريق ممتد ممهد، وهو مظنة اهتداء السالك له إلى حيث يقصد ويريد إذا قصد إلى سواء السبيل ولم يتعوج يمينًا وشمالاً، ويؤكد اقترانها بالهداية قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) ﴾[النحل:16]، وقوله تعالى في سورة الأنبياء:﴿فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾[الأنبياء: 31]؛ فالفجاج، وإن اشتركت مع السُّبل في معنى الطريق فإنها تختص عنها بسمة الاتساع، ومن ثَمَّ يختص السبيل بالتمهد والاستواء، وتختص الفجاج بالاتساع.

وقد قُدِّمَت [ الفجاج ] على [ سبلاً ] في سورة الأنبياء، قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾[الأنبياء:31]؛ حيث السياق هنا سياق بيان عجائب الخلق، وما أودع في الأرض من الجبال الرواسي والفجاج الواسعة وغير ذلك؛ ثم أتبع ذلك بنعمة كونها سبلاً ممهدة، يهتدي بها من باب التتميم للنعم.

ومن الشواهد الدالة أيضا على مراعاة اللفظ القرآني للفروق المعجمية الفارق بين لفظتين وردتا في نفس القضية القرآنية، ولكن في سورتين مختلفتين، وهما: [ انبجست / انفجرت]، وقد وردت اللفظتان في قوله تعالى:

·          لفظة:[انبجست] في سورة الأعراف في قوله عز وجل:﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 160].

·          لفظة:[انفجرت] في سورة البقرة في قوله عز وجل:﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60 ].

ولعلنا نطرح سؤالا مهما وهو لماذا جاءت لفظة: [انبجست] في سورة الأعراف بينما جاءت لفظة: [ انفجرت] في سورة البقرة على الرغم من كون اللفظتين تتحدثان عن نفس الموضوع ونفس القضية؟

ونحن إذا شئنا أن نقوم بتحليل ذلك تحليلا بلاغيا، قلنا: إنَّ كل فعل هذين الفعلين: [انبجست / انفجرت ] يدل على اندفاع الماء من الحجر بعد أن قام سيدنا موسى عليه السلام بضربه بعصاه، إلا ان هناك فارقا في الدلالة بينهما، ومما يجب أن نتيقن منه أن القرآن لا يأتي بأي لفظ، ويضعه في موضع ما ويكون هذا الموضع غير دقيق، فلابد إذن من فروق، وهي بالفعل فروق دقيقة جدا، ومنها:

1- أن الانبجاس هو مقدمة الانفجار، أو المرحلة الممهدة له.

2- أن الماء المندفع مع الانفجار أغزر وأكثر من الانبجاس.

ومن خلال هذين الفارقين اللذين قمنا بتوضيحهما يتجلى لنا وجة الدقة في مُلاءمة كُلِّ لفظ من هذين اللفظين لموضعه من السياق والمقام.

ونحن إن أردنا – كذلك – الاجتهاد في تجلية الجانب الإعجازي من خلال إيثار لفظة على أخرى في موضع عن آخر لوجدنا أنَّ:

1- سورة الأعراف هي السابقة في النزول على سورة البقرة؛ ومن ثم كانت ملاءمة لتكون هي المرحلة السابقة أو المقدمة، ومن هنا جاء لفظ: (الانبجاس) في سورة الأعراف الذي يتوافق مع هذه الدلالة، وكذلك ملاءمة لفظ [ الانفجار] للمرحلة التالية، أو اللاحقة، أو النتيجة المرحلة اللاحقة أو النتيجة (الانفجار) لسورة البقرة! وهذا من دقة القرآن الكريم في دقة اختيار الكلمات، وربطها بسياقها، ومقامها ربطا بديعا يتخطى قدرة العقل البشري على مجاراته، أو الوقوف متحديا إياه!

2- إنَّ كلا من الآيتين قد تضمن السياق فيهما طلبًا للسقيا، غير أن سياق الأعراف كان موجهًا إلى موسى عليه السلام من قومه (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ)، أما في سياق البقرة فقد جاء موجهًا إلى الله عز وجل من موسى.

3- في كلا السياقين توجه الخطاب بصيغة الأمر إلى بني إسرائيل، غير أنه في سياق الأعراف - حيث قلة الماء "مع الانبجاس"- توجه الأمر إليهم بالأكل فقط { فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ، أما في سياق البقرة - حيث غزارة الماء (مع الانفجار) - فقد توجه الأمر إليهم بالأكل والشرب معًا (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ).


تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض