وضوح البيان القرآني

وضوح البيان القرآني
تتجلَّى عظمة القرآن الكريم في وضوح أسلوبه، ولو أن أديبًا أو كاتبًا أودع كتابه من فنون المحسنات اللفظية وألوان البديع، ثمَّ خرج غامضًا مبهمًا؛ لهجره الناس وعزفوا عنه، فالوضوح هو أصل البيان وأساسه، وما أرسل الله تعالى الرسل بلسان أقوامهم إلا ليبينوا لهم الدين ويوضحوا لهم الرسالة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. [إبراهيم: 4]
ولك أن تلتمس هذا البيان من جوانب عدة في أسلوب القرآن الكريم، ومن ذلك ما يلي:
أولًا – وضوح الألفاظ والمعاني:
فأنت تجد المعنى بعيدا عن التعقيدات، لا يحتاج إدراكه إلى مقدمات فلسفية، ولذا كانت معاني القرآن الكريم معجزة، كما قال الخطابي: "وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها" ويقول الزركشي: "فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون، لم يتخطَّ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون".
وبهذا الوضوح والبيان في الأسلوب عبر القرآن عن مكنونات الأنفس في مثل قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 1]، وقوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، وعن مقالة العجماوات في مثل قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
ثانيًا – وضوح الحجج والدلالات:
وهذا الوضوح في الحجج هو الذي قال الله تعالى عنه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، وقد أحسن ابن الوزير حين بين ما اختصّ به أسلوب القرآن الكريم من الوضوح بعدة أمور:
- أن هذه الحجج من أجمع العلوم أوضحها في الإفهام.
- خلوها من فضول الكلام وحشوه الذي امتلأت به حجج أهل المنطق والكلام.
- سهولة فهم عباراته مما يورث النفع العام للخواصّ والعوامّ( ).
وهكذا ترى أن أسلوب القرآن يجعل من مشاهدات الناس، وما ألفوه مادة لترسيخ الدلالات والحجج دون الحاجة إلى تعقيدات وسفسطات تُذهب برد اليقين، واطمئنان القلب بالإيمان، وقد استدل جل وعلا في أول أمر في القرآن على استحقاق عبوديته بإقرارهم بما يرون ويشاهدون من مظاهر ربوبيته، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 – 22]، فهذا الاستدلال على وضوحه تضمن عدة وجوه:
أولها: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السماوات والأرض والمطر والأشجار.
ثانيها: التلطف بذكر ما لله جلّ وعلا عليهم من حقوق وما تفضل عليهم وخصهم به.
ثالثها: الدلالة على صفات المعبود جل وعلا من الحياة والقدرة والحكمة والرحمة، لأن في الاستدلال بهذه المشاهدات بيان لآثار رحمته بالعباد، وحكمته في تقدير الأرزاق والأقدار.
ومن الأمثلة في وضوح الحجج قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّه} [سبأ: 24]، فقد أمر الله تعالى نبيه أن يسألهم على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على أن الرازق لهم من السماوات والأرض من هو؟ ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي جواب السؤال إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال، وإذ لا جواب لهم ولا لغيرهم إلا بـأن يقولوا: هو الله، وهذه السبيل في كل سؤال جوابه في غاية الوضوح؛ لأن المحتجّ يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجّة أخرى يوردها.

تصفح أيضا

العظيم

العظيم

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض