الأسرة المسلمة حصن الوطن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم
مسئول عن رعيته، فالأب راع ومسؤول عن رعيته والمرأة راعيه في بيت زوجها ومسئولة عن
رعيتها). متفق عليه.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه
الله: (الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش
وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يمال إليه، فإن عُود الخير وعلمه نشأ
عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُود
الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والولي له، وقد
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6].
ومسئولية الرجل التي ذكرها النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ
مَسْئُولٌ عَنْهُمْ) يكون الرجل مسئولا عن أهل بيته، تربية وتعليما وتهذيبا
وتقويما؛ ولذا ينبغي عليه الأخذ بهم عن طريق الدنايا، والابتعاد عن مواطن الرِّيب،
وتوفير ما يحتاجونه من سكن وطعام وشراب ولباس، كل ذلك في غير تقتير، ولا إسراف،
وليكن في بيته عينا راعية، وأذنا واعية، يتفقد الأمور، ويتحرى المصالح، ويقيم
العدل في رعايا مملكته الصغيرة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
ومسئولية المرأة التي ذكرها النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله: (وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا
وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) تكون المرأة مسئولة في بيت زوجها، عن
خدمة ورعاية زوجها، وتربية وإصلاح أبنائها، مع كونها حكيمة صبورة مدبّرة، وعلى
المال قائمة راعية حافظة له منمّية.
إن الأسرة هي نواة المجتمع ووحدته
البنائية، فيها يشب الطفل ويترعرع، وتتشكل اتجاهاته وآراؤه ويتم البناء الأساسي
لشخصيته.
فالبيت المسلم هو المجتمع الصغير الذي
تنشأ فيه روابط الأبوة والبنوة والقيم والأخلاق والألفة والمودة، والاستقرار
النفسي والعاطفي، وكلها معان مستمدة من دين الإسلام، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:
21].
لذا أولى الإسلام عناية كبيرة لتكوين
البيت المسلم، فحض على اختيار ذات الدين والخلق، ومعاملتها بالمعروف، مع جعل
القوامة بيد الرجل ليعم الأمن والاستقرار أرجاء البيت، كما أكد الإسلام على دور
الأسرة المحوري في عملية التربية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود
إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) [رواه مسلم (2047)].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (مما يحتاج
إليه الطفل غاية الاحتياج العناية بأمر خُلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في
صغره، ولهذا نجد الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قبل التربية التي نشأوا عليها).
إن الأبناء أمانة في أعناق آبائهم فهل
رعوا هذه الأمانة حق رعايتها؟، ألا فليتق الله أناس ضيعوا هذه الرعية التى سوف
يسألون عنها، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم
راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية
في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته،
والولد راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته) متفق
عليه.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن
الله سائل كل راع عن ما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيّع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته). رواه الترمذي. فالرعاية تعني المحافظة على سلوك الأبناء
وتوجيههم الوجهة السليمة، واختيار الرفقة الطيبة، والمتابعة المستمرة، فإن الإهمال
يفتح المجال أمام الأبناء إلى التفكير بلا ضابط، مع عدم القدرة على إدراك المصلحة،
مما يجعلهم ينساقون بسهولة عبر تيار الفكر المنحرف، وما يتبعه من سلوكيات خطيرة.
كل ذلك بسبب غيبة الأبوين عن مسرح
الحياة التي يخوضها الأبناء، في معزل عن الموجه والمربي والقدوة الحسنة.
وكم
من أب حصد خيبة أمله في صلاح ولده، وندم على ما مضى حيث كان مشغولًا لاهيًا
بمصالحه الشخصية، حتى دب داء الانحراف إلى ولده.
فمسؤولية
الأب أكبر ودوره أعظم، فلو أخذ الآباء وصية لقمان لابنه مثلًا في حياتهم، لأدركوا
عظم هذه المسؤولية، ومن تلك الوصايا ما جاء في قوله تعالى: {يَابُنَيَّ
أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 17 - 19].
فهذه
الآيات تضمنت دستورًا كاملًا في الأخلاق الكريمة، ففيها توجيه للولد بمراقبة الله
عز وجل، ودعوته إلى كل معروف ونهيه عن كل منكر، وأن يتحلى بالصبر على ما يصيبه من
أذى في سبيل ذلك، وألا يسوقه صلاحه واستقامته إلى الكبر والغطرسة واحتقار الناس،
بل عليه التحلي بأخلاق الإسلام، كالتواضع والتأدب مع الناس.
وبهذه
التربية يعيش الولد حياة حقيقية، حتى لا يكون هملًا ضائعًا بلا نظام يقوده ويقوم
سلوكه.
وصدق
الشاعر إذ يقول:
وينشأ ناشئ
الفتيان فينا |
|
على ما كان
عوده أبوه |
ويظل الأب حريصًا على صلاح ولده وكمال خلقه، حتى يكون ولدًا صالحًا نافعًا في مجال أسرته ومجتمعه ووطنه مطيعًا لولاة أمره معينًا على الحق داعيًا إليه، ومتى خلصت النوايا وتظافرت الجهود، استطعنا بإذن الله أن نحمي أولادنا من الانحراف، وذلك بتنمية الوازع الديني وزرع الفضيلة في النفوس والتحذير من الرذيلة، وترسيخ المبادئ الدينية لدى النشء، وتحسين الظروف الاجتماعية للأسرة ورفع مستوى المعيشة، فالفرد متى ولد في عائلة بهذه الصفات اكتسب منها القيم والسلوكيات الحسنة، ومن جانب آخر تحصين الشباب وحمايتهم من السلوكيات المنحرفة، وذلك يكون بملء وقت فراغهم بكل ما هو مفيد.
ويمكن للأسرة أن تقوم بدور مهم في مجال وقاية أفرادها من الانحراف، وذلك من خلال السلطة الوقائية التي تمتلكها الأسرة القائمة على التنشئة السليمة، والسلطة الرقابية التي تتمثل في متابعته، وعدم تركه عرضة لكل ناهب.
نسأل الله العلي العظيم أن يحفظ أولادنا من كل سوء، وأن يجعل مجتمعنا مجتمعًا صالحا يبني وطنه على دعائم الحب والانتماء حتى تصبح رايته خفاقة عالية في كل زمان ومكان.