هذه الحكم كما أقول دائما
تُنعش الآمال، وتُوقظ الأفهام، وتُحرك الوجدان، فصلِّ على خير الأنام، الذي علَّم
الكل، وعلم الصغير والكبير، وعلَّم المتعلمين، وعلَّم الدنيا كلها، صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه الكرام!
الذين يبدأون الطريق إلى الله
ونضرب مثالًا كي يتضح المقال: شخص لا يعرف عن الإسلام شيئًا، ويريد أن يستدل على
الله عز وجل، أو شخص مسلم، يريد أن يزداد ثباتًا وإيمانًا ويقينًا، أو شخص متردد
في الإيمان، ويريد جرعًة إيمانيًة لكي تثبته على الإيمان والطاعة والتقوى.
إن الذي يساعدك في هذا هو منهج
البحث والاستدلال فيما تستطيع أن تفهمه، وليس في الغيبيات؛ لأن الغيبيات أمر لا
تستطيع أن تدركه، كما قال سيدنا صلى الله عليه وسلم، والحديث عند الإمام مسلم عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قالَ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ:
لا يَزالُونَ يَسْأَلُونَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ حتَّى يقولوا: هذا اللَّهُ، فمَن
خَلَقَ اللَّهَ؟ قالَ: فَبَيْنا أنا في المَسْجِدِ إذْ جاءَنِي ناسٌ مِنَ
الأعْرابِ، فقالوا: يا أبا هُرَيْرَةَ، هذا اللَّهُ، فمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ قالَ:
فأخَذَ حَصًى بكَفِّهِ فَرَماهُمْ، ثُمَّ قالَ: قُومُوا قُومُوا صَدَقَ خَلِيلِي)) .
إذا وصلنا إلى هذا وجب علينا
أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لماذا؟ لأن الله تعالى ليس قبله شيء، وليس
يعلوه شيء، وهو القاهر فوق عباده، وسنتكلم في التسلسل، وقد حدثتكم عنه في كتاب كيف
بدأ الخلق، وستصل في النهاية إلى ضرورة حتمية لوجود خالق متقدم، هذا الخالق هو
الله رب العالمين.
والمسألة لا تحتاج إلى كثير
استدلال، فإذا رأيت الحمار قد مات مائة عام، ثم بعث الله الحمار وصاحب الحمار -كما
جاء في سورة البقرة- ورأى الحمار يُركَّب أمامه، عظم يركب على عظم، حتى اجتمعت
العظام واكتست لحمًا، فعندما اكتست لحمًا نهق الحمار واستوت فيه الحياة، ونظر
إليه، فقال، {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ
عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [البقرة: 259 ] .
هذه المسألة لا تحتاج إلى كثير
استدلال، إذا ما رأيت الماء واحدًا والأرض واحدة، ويُسقى الزرع بماءٍ واحد، ورغم
هذا يخرج زرعاً مختلفاً ألوانه وطعمه، يخرج كل ما يأتي على خاطرك، الماء واحد،
والأرض واحدة، إذن الخالق واحد لا يتعدد.
إبراهيم عليه السلام في
الاستدلال، ظل يستدل ذات مرة بالليل ويستدل بالقمر، ويستدل بالشمس، وفي آخر
الاستدلال اهتدى إلى الله عز وجل.
واستمع إلى قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى
الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [فصلت: 39 ].
الذي أحيا الأرض لمحيي الموتى
فهذا استدلال، أي تشاهد الأرض صفراء، أو سوداء، وليس فيها أي زرع وبعد شهر أو شهرين
فإذا بها قد اخضرت، وإذا بها قد أينعت، الاستدلال هنا يقول: إن الذي أحيا هذه
الأرض قادر على أن يحيي من خرج من هذه الأرض، من الذي خرج من هذه الأرض؟ أنا
وأنت.. قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} [طه: 55]، فالمسلم ليس في حاجة إلى دليل على قدرة
الله عز وجل، أو على وجود الله عز وجل، لكن المهم أن الدليل يأتي في وقت معين،
فيحتاج فيه المسلم أو غير المسلم إلى ما يثبِّت قلبه على الإيمان، إذا كان يريد
إيمانًا ولا يريد نفاقًا، ولا يرد جدلًا، هذا هو المهم، ولا يريد أن يدخل في فلسفة
عقيمة حول الله عز وجل، فقال الملك: وحُقَّ له أن يكون الملك: {سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
فالمسألة لا تحتاج إلى
استدلال، لكن تحتاج إلى رؤية، وإلى يقين فيما ترى، سنريهم آياتنا في الآقاق وفي
أنفسهم، أي أن الله تعالى يعرض لك جانبًا من عظمته لكي تتبين أن الدين حق، وأن
الله عز وجل حق، وأن الحياة حق، وأن جبريل حق، وأن القرآن حق، وأن نبي الله محمدًا
صلى الله عليه وسلم حقٌّ، وأن الموت حق، وأن القبر حق، وأن الحساب حق، وأن البعث
حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق.
الاستدلال يصل بك إلى هذا
الفهم الطبيعي، بطبيعة الأمور التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون في حدود علم
البشر، لكن هناك أشياء ليست في حدود علم البشر، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143].
طلب موسى عليه السلام طلبًا
عجيبًا لكنه يحب أن يزداد يقينًا، كما هو حال سيدنا إبراهيم عليه السلام، {رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ} [البقرة:260]، هل سيدنا إبراهيم عليه السلام
لا يعرف؟ هو يعرف لكنه يريد أن يُطمئِن قلبه، وقد دخلنا في مرحلة البحث
والاستدلال، التي تكلم عنها ابن عجيبة في هذه الحكمة، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا
يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، استدلال، ما داخل السموات؟ وما داخل الأرض؟ انظروا
واستدلوا على قدرة الله عز وجل {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ
لَّا يُؤْمِنُونَ}.
استدلوا بالمعقول واستدلوا
بالمنقول، فالمعقول هو ما يقبله العقل، ما يستساغ، والمنقول ما جاء في الكتاب
والسنة، إذا كان الأمر غير مستساغ لا في عقلٍ، ولا في نقلٍ، فليس لك أن تقبله،
والقرآن يحترم الكافر إذا أتى بدليل وإذا أتى ببرهان، وعندما يأتي الكافر بالبرهان
والدليل نناقشه، ونتحدث معه، أما إذا كان ضالًّا، ومُضلًّا، فليس لك أن تدخل معه
في جدال خطير، فالبرهان في القرآن هو الحجة، قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ
رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، الكافر عندما يأتي
ببرهان تتحدث معه فيه، أما الأشياء التي ليس لها براهين وليس لها أدلة، فلا يستطيع
العقل أن يتقبلها،كما ذكرت في تفسير سورة البقرة، عندما سألوا موسى عليه السلام
فقالوا { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }
[النساء: 153]، ليس هذا بحثًا ولا استدلالًا، بل هذا جدل عقيم، وفلسفة عميقة في الجدل،
لماذا؟ لأنك لن تستطيع أن ترى الله في الدنيا.
سيدنا موسى الكليم لا يقدر أن
يرى الله، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ
فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ
سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]، أنت
لك حدود معينة، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني، سيدنا موسى يقف
على الجبل، ويتجلى الله سبحانه وتعالى للجبل، لا لموسى عليه السلام، فعندما تجلى
الله للجبل، ماذا حدث؟ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]. لقد
آمنت أن الله تعالى لا يُرى بالعين الطبيعية، ولا يُرى في الدنيا، لكن ترى نعماءه.
فالبعرة تدل على البعير، هذا
استدلال، والأثر يدل على المسير، وهذا استدلال، سماء ذات أبراج، استدلال، وأرض ذات
فجاج، استدلال. ألا يدل هذا على الحكيم الخبير؟ بلى.
القرآن الكريم يقول لك خمس
مرات، في منهج البحث والاستدلال، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [النمل: 61]، خمس مرات،
بماذا أجبت أنت؟ {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا
تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
من يقدر على هذا إلا الله عز
وجل؟ لو أزيلت الحجب بيني وبين الله عز وجل ما ازددت يقينًا، هذا كلام الإمام علي
بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، يقول الإمام علي في باب الرسوخ في الإيمان: إذا
أزيلت الحجب التي تحجب بين الناس وبين الملك ورأيت الله جهرة، لن أزداد يقينًا؛
لأن عنده من اليقين ما يكفيه.
لا تركن إلى الأسباب، لكن خذ
بها، ولكن اركن إلى المسبب، فعندما مرض سيدنا موسى عليه السلام، واشتد عليه المرض،
ذهب إلى مكان دله الله تعالى عليه، فذهب إلى شجرة فأخذ منها أوراقا وتناولها،
فعافاه الله عز وجل.
وبعد هذا مرض سيدنا موسى عليه
السلام، وأخذ بالأسباب، لكن دون مشيئة المسبب، فذهب إلى نفس الشجرة، وأكل منها فلم
يعافَ، سبحان الملك! فوجود الأسباب ليس معناه النجاح، لكن المهم أن تكون الإرادة
عند المسبب، أستاذ الكبد يموت مريضًا بالكبد، وهو الذي عالج آلاف البشر، ورغم هذا
لم يدفع عن نفسه الداء، من الذي يسبب الأسباب؟ أستاذ القلب يموت مريضاً بالقلب،
وهو الذي عالج آلاف الحالات في العالم كله، لكنه أخذ بالأسباب، ونسى المسبب، لأجل
هذا طلبك لغيره، الذي فيه إلحاح على الدنيا، ويطلبها من غير الله عز وجل، لن تأتيه
الدنيا، وإذا جاءت له بالتملق، والسؤال فلا قيمة لها.
لماذا؛ لأن راغب الدنيا يموت جوعان،
راغب الدنيا يموت ولم يشبع من الدنيا، كان يتمنى جبلًا من ذهب، لأجل هذا فاجعل
طلبك من الله سبحانه وتعالى، فإذا طلبته فإنه يعينك، ويؤيدك بنصره، قال الشاعر:
اجعل
لربِّك كلَّ |
|
عزِّك
يستقرُّ ويثْبُتُ |
فإذا
اعتززتَ بمن يموتُ |
|
فإن
عزَّك ميتٌ |