بيوت الأُنس والسّـكينة
جعل الله الزوجة سكنا لزوجها فقال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:
21]، فهى موطن راحته وهدوئه وأنسه، ونستطيع أن نقول: إن الزوج أيضًا سكن لزوجته تبثه
آلامها وأفراحها، وتعتبره أقرب الناس إليها، وأرحم الناس بها وهذا القرب بين الزوجين
والرحمة والمودة هو هدى نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذى يثمر الأنس والسكن والسكينة
والطمأنينة فى البيوت المسلمة السعيدة.
ونستطيع أن نتأمل
فى هذه الآية فنرى فيها بعض العبر: في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا} جعل الله زوجتك من نفسك، جزءا منك، فكيف تعامل نفسك؟، كيف تتعامل مع جزءٌ
من جسدك؟.
وفى قوله {لِّتَسْكُنُوا} اللام هنا لام تعليل، فالسكن عِلّة
لهذا الزواج، كأن هذه السكينة والطمأنينة فى البيوت المسلمة هى الغاية والعلة فإذا
افتقدت البيوت المسلمة هذه الثمرة فإن هناك خللًا تزيله طاعة الله والقرب منه سبحانه،
فتتم السكينة والأنس والسعادة بطاعة الله، وقربه فالبيوت المسلمة تقوم سعادتها على
رضا الله وطاعته وحبه فتعم فيها السكينة حتى تصير كأنها روضة من رياض الجنة.
يقول ابن القيم
رحمه الله فى مدارج السالكين: (السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها
الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول
الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل).
وأول مقام من مقام
الأنس فى البيوت السعيده هو الحرص على ذكر الله على كل حال وفى كل وقت إنها بيوت تلجأ
إلى الله، ولا تنساه فى سراء ولا ضراء.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ومن علامات صحة
القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه،
ويذكِّرُهُ به، ويذاكره بهذا الأمر) [إغاثة اللهفان: ص 72].
فالأنس بالله تعالى حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة
الرحمن، والشوق إلى لقاء ذى الجلال والإكرام.
قال أحد السلف: (مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما
ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى
لقائه، والتنعم بذكره وطاعته) والعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام
الإحسان واستقرت قدمه فيه أنس بالله تعالى والتذ بطاعته وذكره.
وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدريج
للنفوس شيئا فشيئا، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها، فيعيش العبد
قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه.
إن الأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض
والسماوات، كما قال ابن القيم رحمه الله: (فكل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش) [مدارج
السالكين: 2/406]. وقال ابن الجوزى رحمه الله تعالى: (إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛
لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة عيش المستأنسين، ويا
خسارة المستوحشين) [صيد الخاطر: 213].
قيل للعابد الربانى وهيب بن الورد رحمه الله: (هل يجد طعم
العبادة من يعصيه؟ قال: لا، ولا من يهم بالمعصية).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (من أراد السعادة
الأبدية فليلزم عتبة العبودية). ولأجل ذلك كان السلف الصالح الكرام، والأئمة الأعلام
يتشوقون إلى فعل الطاعات، ويحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات، ولا يسأمون
من العبادات لأنسهم برب البريات.
قال الوليد بن مسلم: (رأيت الأوزاعى يثبت فى مصلاه يذكر الله
تعالى حتى تطلع الشمس).ولننظر إلى صورة من صور البيوت المسلمة السعيدة عند سلفنا الصالح
رضى الله عنهم وأرضاهم فهذا أبو عائشة الإمام التابعى مسروق بن الأجدع كان يصلى حتى
تتورم قدماه، قالت زوجته: (فربما جلست أبكى مما أراه يصنع بنفسه، ولما حضرته الوفاة
قال: ما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى).