الدنيا بكل زينتها
وزخرفها ما هى إلا متاع الغرور، إذا نظر الإنسان إليها بعين اليقين فإنه سيرى
قصورها وقبورها سواء، وصاحب الحظ العظيم فيها من يرزق الحمد على بلاء زائل ليحظى
بالنعيم المقيم، ومن يراها على حقيقتها فلا تشغله عن رب كريم رحيم.
لقد عاش فى هذه الدنيا
رجال من سلفنا الصالح فما شغلتهم عن مولاهم وما غرتهم وما ألبستهم ثوبًا غير ثوب
الإيمان.
لقد زرع رجل من أهل
الطائف زرعًا فلما بلغ أصابته آفة فاحترق، فدخل عليه أصحابه لتسليته فبكى، وقال:
وما عليه أبكي، ولكنى سمعت الله تعالى يقول: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117]،
فأخاف أن أكون من أهل هذه الصفة فذلك الذى أبكاني.
وذكر سلمان الفارسى أن
رجلًا بسط له فى الدنيا، فانتزع ما فى يده فجعل يحمد الله عز وجل، ويثنى عليه حتى
لم يكن له فراش إلا بوري، فجعل يحمد الله ويثنى عليه وبسط للآخر فى الدنيا، فقال
لصاحب البوري، أرأيتك أنت علام تحمد الله عز وجل؟ قال: أحمد الله على ما لو أعطيت
به ما أعطى الخلق لم أعطهم إياه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك، أرأيت لسانك؟
أرأيت يدك؟ أرأيت رجلك؟.
وكان رجل ذاهب نصفه
الأسفل لم يبق منه إلا روحه فى بعض جسده، ضرير على سرير مثقوب، فدخل عليه داخل
فقال له: كيف أصبحت؟، قال: ملك الدنيا منقطع إلى الله عز وجل مالى إليه من حاجة
إلا أن يتوفانى على الإسلام.
ومات لرجل من السلف
ولد، فعزاه سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وآخرون، وهو فى حزن شديد، حتى جاءه
الفضيل بن عياض، فقال: يا هذا أرأيت لو كنت فى سجن وابنك، فأفرج عن ابنك قبلك، أما
كنت تفرح؟ قال: بلى، قال: فإن ابنك، خرج من سجن الدنيا قبلك، قال: فسرى عن الرجل،
وقال: تعزيت.
هكذا الدنيا كما علمنا
النبى صلى الله عليه وسلم أنها سجن المؤمن وجنة الكافر، فكيف تستريح وأنت فى سجن
ينازعك فيه الشيطان والنفس وحب المال والولد حتى تنشغل عن الذى خلقك فسواك فعدلك،
ليس لك راحة إلا بحب مولاك، وليس لك راحة إلا أن يتغمدك الله برحمته، ويحصنك بحصنه
الذى لا يستطيع الشيطان أن يتسور أسواره.
اجعل حبك لله، واجعل
عطاءك لله، واجعل عملك كله لله فالله خير وأبقى من متاع الدنيا، ومن غرور الدنيا،
ولنظرة واحدة إلى وجه رب كريم خير من الدنيا وما فيها، وللحظة واحدة فى جنة النعيم
التى اعدها الله لعباده المؤمنين خير من نعيم أغنى ملوك الأرض، وأعظمهم جاهًا
وسلطانا، لم تعط الدنيا أحدًا إلا سلبته، ولم تفرح أحدًا إلا أبكته، ولم تقبل على
أحد وتجلب عليه بزخرفها وزينتها إلا غرته وكم يعجبنى قول الحسن البصري: يا ابن آدم
إنما أنت عدد فإذا مضى يومك فقد مضى بعضك، إنما الدنيا حلم والآخرة يقظة والموت
متوسط بينهما، ونحن فى أضغاث أحلام، من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر
فى العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضل، ومن حلم غنم، ومن خاف سلم، ومن اعتبر أبصر، ومن
أبصر فهم، ومن فهم علم، ومن علم عمل، فإذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت
فاسأل، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن خير الأعمال ما أكرهت عليه النفوس.