الإمام
الجنيد بن محمد
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم إنا
نستعين بك فأعنا، اللهم إنا نتقوى بك فقونا، اللهم إنا نستنصر بك فانصرنا، اللهم
إنا نعتمد عليك ونفوض أمرنا إليك، فاجعلنا سعينا كله خالصا لك يا رب العالمين،
والصلاة والسلام على خير الأنام، مفتاح دار السلام، وعلى آله وصحبه الأخيار.
القدوة الحسنة من سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم هي التي جعلت هذه الأجيال المؤمنة أصحاب الأحوال وأصحاب
الأقوال وأصحاب الموافق الحسان الذين أصحبهم في كتاب (مجابي الدعاء)، العمود
الأساسي في حياتهم هو تأسيهم بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سنلتقي بالإمام القدوة المحدّث،
كما قال عنه ابن الجوزي والإمام الذهبي: الإمام القدوة المحدث أبو القاسم الجنيد
بن محمد، الجنيد من علماء بغداد المعروفين المشهورين جدا كان في عصر اتسم بالزهد
والورع، وكان خاله من كبار الصالحين السري السقطي وكان مرافقا للإمام الحارث
المحاسبي.
وتلقى عن عمرو بن قيس الملائي،
وكانت بغداد والكوفة في هذا العصر العباسي الثاني مليئة بأزاهير أعلام الإسلام
والعباد الذين لا يمكن لأحد أن يتصور الحالة الإيمانية التي كانوا عليها والحالة
التي وصلتهم إلى الله يعني كيف وصلوا إلى الله بحال خاص جعل لهم دعاء مستجابا جعل
الملأ الأعلى يعرفهم، جعل لهم محبة في قلوب الناس، جعل لهم حالة تسمى بين قوسين
(حالة الكشف أو الوجد)، الكشف أو الوجد التي اتسم بها سيدنا عمر رضي الله عنه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يكن بعدي محدثون) يعني يتكلمون بالغيب
يقولوا سيحصل كذا (إن يكن في أمتي محدثون فهو عمر) ([1]).
طبعا ظهر في الأمة أمثال عمر
الكثير بعده، فإن الأمة لن تعدم الخير ما دامت تتأسى بسيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، كثير من الناس لا يعرفون فضل الإمام الجنيد، ولكن الذي عرفنا فضله الإمام
ابن القيم في كتاب طيب، الكتاب أقرأ فيه من ثلاثين سنة هكذا أحفظه، وهو جزآن
(مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) يعني من أعظم ما قرأت في
حياتي.
ما دور ابن القيم؟ يفسر كلام
الإمام الجنيد، يعني هذا الكتاب لعالم سلفي كبير لا يشق له غبار ابن القيم كل
الكتاب عبارة عن تفسير لإشارات ولمحات وإنعامات ابن الجنيد؛ لأن كلامهم صعب؛ لأن
حالهم صعب؛ لأن إشاراتهم صعبة، فلا يمكن لأحد أن يفسر كلام ابن الجنيد أو ابن عطاء
الله السكندري، أو الحارث المحاسبي إلا علماء كبار.
تخيل إذا كان كلامه محتاج إلى
عالم حتى يفسره كيف هو مع الله سبحانه وتعالى؟ يعني ابن القيم من أفضل من أنجبت
الحضارة الإسلامية أنا أشهد له بهذا، يعني ابن القيم ظل فترة زمنية طويلة في
المنارة في دمشق جالس يفسر كلام الإمام الجنيد بن محمد الجنيد، صليت على النبي.
يبقى علامات النبوغ ظاهرة في
الطفل، وهو صغير يسموها البصمة الوراثية، البصمة الوراثية فكان هناك أطفال يلعبون،
وكان خاله السري السقطي من كبار الصالحين في بغداد يسألهم واحد يقول له: ما علامات
الشكر؟ ما معنى الشكر؟ لا أحد فيهم عرف
يجيب إلا الجنيد الصغير، فقال: من علامات الشكر أن لا تعصي الله تعالى بنعمة أنعم
بها عليك، هو عنده سبع سنين.
ولذلك لما بلغ عشرين سنة قال عن
نفسه بكل تواضع: ما من علم على وجه الأرض إلا علمني الله إياه.
ولذا ابن الجوزي يقول: الإمام
القدوة الحافظ، ثلاث كلمات لها دلالة معينة أما حالهم في العبادة، فإنه حال متعب؛
لأنه من الصعب على الناس أن يصلوا إلى حالهم، وبالتالي من الصعب على الناس أن
يصلوا إلى العطايا التي أعطاهم الله إياها، يعني على قدر ما تتعب في الطريق إلى
الله فإنك تحصل.
فكان يصلي في اليوم والليلة تطوعا
ثلاثمائة ركعة، وكان يسبح كل ليلة ثلاثين ألف تسبيحة، مقتديا بأبي هريرة رضي الله
تعالى عنه الذي كان عنده حبل عقده ألف، كالسبحة الألفية يلف عليه في الليلة أربعين
يبقى يسبح في الليلة: أربعين ألف.
يقول عنه الناس الذين عاصروه: إذا
تكلمت عن حاله فإن علمه أفضل من حاله وإذا تكلمت عن علمه فإن علمه أفضل من حاله،
يعني في ناحية العلم يتكلم بسم الله ما شاء الله، موسوعة عظيمة جدا وربنا أعطاه
الكشف من هذا.
وكان يقول: من علامات ضعف الإيمان
أن تشغل بغير الله، وهذه تعلمها من أستاذه أبي يعقوب الزيات، وكان يقول: من علامات
إعراض الله عنك أن تنشغل بما لا يعنيك، فطبعا يعني مكتسبات العبادة والزهد والورع
والحالة الإيمانية والتوهج مع ربنا سبحانه وتعالى يعطي له ميزة أن الإريل عنده في
الاستقبال نظيف، وبالتالي يستقبل أي إشارات ربانية بخلاف قلوبنا، فإنها ملوثة
فقلبك على ما يتنظف عايز يتجلخ وعايز يتسنفر وعايز شغل كثير.
هم لأن خاطر حالهم فيه رقة أصلا،
والدنيا ما شداهم مثلنا فيستقبل بسرعة كان له تلميذ اسمه خير، وذهب لكي يوده أو
يزوره أو يعوده وهو مريض، فخير يقول: فوقع في قلبي في أول مرة أن أبا القاسم
الجنيد واقف على الباب فقلت: لا هذه وسوسة، وهو فعلا واقف على الباب، فقال: هذه
وسوسة، فسكت فجاءه خاطر ثاني يعني لخير فيقول له: الشيخ واقف خرج على الباب فقال:
هذه وسوسة، طيب أرى فطلع فوجد الإمام فقال له: لماذا لم تفتح من أول خاطر؟ ما هو
جاءك ثلاث مرات أنت تأخرت للثالث لماذا؟
فهذا الفرق من استقبال الأولياء
الكبار، طبعا الأولياء فعلا أولياء، وكان هناك رجل تلميذ له اسمه: أبو عمرو بن
علوان، وهذا الرجل يقول: نزلت السوق في الرحبة، الرحبة بلد بجوار بغداد، فوجدت
امرأة مسفرة، يعني تكشف وجهها، وهذا كان أمر نادر في الحضارة الإسلامية كانوا يعني
كمصر زمان يضعوا حاجة اسمها البرقع.
فرأى واحدة اتشد لها من حيث لا
يدري هو أول ما نظر لها لم تكن النظرة مقصودة، وانجذب لها من حيث لا يدري، فرجع
البيت فدخل على العجوز أمه، فقالت له: مالي أرى وجهك أسود؟ هو فأحضر المرآة فوجد
وجهه أسود.
فيقول: فخلوت إلى تعالى مستغفرا أربعين يوما، فجاءني السري السقطي فقال
له: ما داهيتي، قال له: تذكر، تذكر، تذكر فتذكر أن النظرة التي نظرها أخرته عن
الله سبحانه وتعالى شغلته، وبعد أربعين يوما عبادة وخلوة مع الله لكي يتوب الله
عليه جاءه خاطر أنه لن يتوب الله عليه إلا إذا ذهب إلى الإمام الجنيد في بغداد
فراح للإمام الجنيد أستاذه وشيخه، فطرق عليه الباب فقبل أن يقوم فقال له: ادخل يا
أبا عمرو، أتعصي الله بالرحبة وتأتي لكي نستغفر لك في بغداد؟، وهذه الحاجات كانت
عادية بالنسبة لهم.
ولذا استقرّ في قلبي ابن القيم كان معجب به كان معجب بالإمام الجنيد،
وباسم الله ما شاء الله، كتابه عظيم جدا هو مهتم به؛ لأنه عارف مقامه عند ربنا،
حتى كان يقال عنهم: عد كلامهم من كلام الأنبياء، يعني يتكلمون قليلا، والكلام
عندهم كلام بسيط، لكنه كلام مؤثر، وكلام أناس موصولون بالله سبحانه وتعالى.
لما تلاحظ الناس من حوله مثلا
يقول لك: الجنيد روى حديث واحد عن الجنيد، عن حسن بن محمد، عن عن... عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور
الله)
([2])
وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]
يعني روى حديث واحد فقط، والحديث موجود في الترمذي وهو حديث غريب. وليس غريبا في
المعنى بل غريب في السند. يعني ورغم هذا هناك من ضعف الحديث وهناك من قبل الحديث
حديث مهم جدا، (اتقوا فراسة المؤمن) لأنهم أهل فراسة يعني: نور الله تعالى خاطرهم،
ونور الله تعالى قلبهم فعرفوا الطريق فوصلوا إلى الطريق.
حتى لما جاءه الموت والناس حست
أنه مرهق، وفقد العافية والسيطرة على نفسه يقوم ساعتين يصلي ويسجد، فيقولون له: يا
أبا القاسم ارفق بنفسك كفاك عبادة سبعين سنة أو ستين سنة، فيقول هذا طريق أوصلني
إلى الله، ولا أريد أن أقطعه إلى آخر لحظة في حياتي، يعني عندهم قناعة تامة أن
العبادة حالة من الترقية وحالة من التنقية وحالة من التحلية.
ولذا يتعلم من السري السقطي، وهذا
كان من أزاهير بغداد، والإمام الحارث المحاسبي صاحب كتيب صغير اسمه (التوهم)، انظر
الناس الذين تعلم منهم أساتذته: الحارث المحاسبي.
المهم لما مات الإمام أبو القاسم
الجنيد بن محمد، الجنيد الأحوال التي مات فيها يعني ظروف الوفاة والناس الذين من
حوله أحوال غير طبيعية. سبحان الله كيف أنه حضرت الملائكة عند موته؟ كيف إنه
استقبل القبلة بنفسه؟ كيف أنه كبر وتشهد ثم مات؟
كيف كيف يعني: حالة الحضور الإيمان العالية التي كان عليها في الدنيا
لازمته عند الوفاة، وشيعه ستون ألف، صلى عليه ستون ألف في مشهد لم يتكرر في بغداد
من أيام موت الإمام أحمد بن حنبل يعني ما رأى الناس العظمة في هذه الحالة إلا مع
الإمام أحمد بن حنبل.
فلما مات ذهب إلى أحد أتباعه فقال
له: يا شيخنا ماذا فعل الله بك؟ فقال له: رقاني ورفعني، فقال له: بماذا؟ قال: بركيعات،
من باب الأدب والتواضع يعني: بركيعات كنا نؤديها في وقت السحر([3])،
طبعا حاجة بسيطة، {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34].
الإمام الجنيد يعتبر مجددا؛ لأنه
قال كلاما في كل باب من أبواب الإسلام يعني مثلا أنا سأذكر فقط لمحة صغيرة عن
الأبواب التي أخذها منه ابن القيم سريعا، في الجزء الثاني: منزلة الإخبات، منزلة
الزهد، منزلة الورع، يسميها منزلة، ولذا ابن القيم يقول: قال صاحب المنازل هو
يسميه صاحب المنازل؛ مسمي الجنيد صاحب المنازل، وأخذ منه هذه المنازل: منزلة
الرغبة منزلة الرعاية منزلة المراقبة منزلة تعظيم حرمات الله، منزلة الإخلاص،
التهذيب الاستقامة التوكل تفويض الأمر إلى الله التسليم إلى آخر باب عنده السكينة،
ثم الطمأنينة بذكر الله.
يعني الذي يقرأ فيكم هذه الأبواب
يحس أن هؤلاء الناس- منزلة الإرادة منزلة العزم منزلة المروءة، منزلة التواضع،
منزلة الأدب، منزلة الانكسار، منزلة الإنابة التذكر التفكر، منزلة التعلق بالله
سبحانه وتعالى الرياضة النفسية منزلة الحزن منزلة الخوف منزلة الإشفاق منزلة
الخشوع في الصلاة، وهكذا- أعطاهم الله علما، وعلمهم الله علما كبيرا، وكان عنوان
حياتهم كما قلت لك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
اللهم كما علمتهم علمنا، وكما
هذبتهم هذبنا، اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان، اللهم نور قلوبنا بحب الرحمن، اللهم
ألزمنا مرافقة الصالحين، وألزمنا حب الصالحين، اللهم كما رفعتهم في الدنيا والآخرة
ارفعنا معهم، اللهم كما نورتهم نورنا معهم، اللهم كما عفوت عنهم اعف عنا، اللهم
كما عفوت عنهم اعف عنا، اللهم كما عفوت عنهم اعف عنا.
اللهم انزلنا منازل الخاشعين
والمتبتلين والمتضرعين والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا
عظيما، اللهم نسألك مغفرة وأجر عظيما، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، ولا
تخزنا يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه اجعلنا معه، اجعلنا معه، اجعلنا
معه، اجعلنا معه.
واجعل في أسماعنا نورا وفي قلوبنا
نورا وعن أيماننا نورا وعن شمائلنا نورا، واجعل أيامنا وبيوتنا وأولادنا نورا،
واحشرنا في نور جلالك يا رب العالمين، اللهم كما رحمتهم فارحمنا، وكما رضيت عنهم
فارضى عنى وكما سامحتهم سامحنا، واجعل لنا مقعد صدق عند مليك مقتدر، {إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
(11) سلمة
([1]) صحيح: أخرجه البخاري في صحيحه (3469) ومسلم في صحيحه (2398) والنسائي في
"الكبرى" (8119). عن أبي هريرة.