عمرو بن قيس الملائي

عمرو بن قيس الملائي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، اللهم إنا نستعين بك فأعنا، اللهم إنا نهتدي بك فاهدنا، اللهم إنا نتقوى بك فقونا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم اقذف رجاءك في قلوبنا حتى لا نرجو أحدا سواك. والصلاة والسلام على سيد الأسياد، خير العباد والعبّاد وخير من نطق بالصواب، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب. محمد بشر في نوره قمر في طهره ملك يمشي على قدم.

عمرو بن قيس الملائي من علماء الطبقة الرابعة في مدينة الكوفة التي أسسها الإسلام، كان الإسلام خيرا عميما على كل بلاد المسلمين وليس على العرب فقط، فقد أنشأ الإسلام حضارة لم تسبق في التاريخ ولم يأت بعدها التاريخ.

الله أكبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ

 

وكتابهُ أقوى وأقومُ قيلا

لا تذكروا الكتبَ السَّوالفَ عندهُ

 

طلعَ النهارُ فأطفِئُوا القنديلا

كل الحضارة في العراق والشام، وروسيا والصين الذي صنعها البطل الكبير الإسلام {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].

 من سمات (مجابي الدعاء) أن لهم أحوالًا خاصة مع الله تعالى لما وصلوا إليها كان دعاؤهم مستجابًا. مثلا عمرو بن قيس الملائي من الصالحين، اللهم حبب إلينا حب الصالحين. اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك. فلا بد أن تحب الصالحين لكي يكتمل إيمانك، فهم أهل الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وهم أهل النور {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، فهم الهداة الذي يهدي الله تعالى بهم، ولولاهم لبقي الناس في ظلام دامس.

عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه أول ما ذكره ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتاب (صفة الصفوة). والإمام الذهبي رحمه الله تعالى في (سير أعلام النبلاء)، والخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في (تاريخ بغداد). ذكر أنه ظل صائمًا عشرين سنة ولا يعرف أهله أنه صائم. وكان له محل في السوق، فكان يخرج في الضحى ومعه الطعام يقول لأهله: سأفطر به وأتناول الغذاء منه، فيخرج ويتصدق بالطعام الذي معه، ويبقى صائمًا إلى صلاة المغرب([1]).

بالمناسبة، الذي جعلني أواصل الصيام في العشرينيات من حياتي قابلت رجلًا يوم الخميس العصر، فأخرجت قطعة حلوى كي أعطيها له، فقال: إني صائم، فهذه الكلمة كأنها جبل وقع عليّ، فقلت في نفسي: لماذا لا أصوم مثل هذا الرجل؟ ولماذا يتفوّق عليّ في الإيمان؟ فقررت ألا أفطر بعدها يومًا. ظللت أوبخ نفسي أنني أفترض نفسي من السابقين إلى الله تعالى، فما الذي أخرني عن الصيام في يوم الخميس؟ وكنا في الشهر الثامن والجو حار، ولكن لماذا يضيع منك الأجر؟

كان عمرو بن قيس الملائي إذا أخذته الرقة يخفي وجهه عن الحضور،  وكان دائمًا ما ينتحي في المسجد منكبًا على البكاء كأنه كان سارقًا. يعني له حال رقة مع الله، ومن باب دفع الرياء يخفي البكاء ويقول: ما هذا الزكام؟ حتى يفهم الجالسون أن عند زكام، وليس بزكام ولكنه يدفع عن نفسه ما يظن أنه خاشع أو ما يظن أنه فريد عصره وأوانه. 

 وكان هذا حالهم إذا عملوا في الدنيا، فإنهم يعملون لها بكل إخلاص وتركيز مقتبسين هذا من هدي رسول الله كان صلى الله عليه وسلم  إذا عمل عملًا أثبته.

 وأما في الآخرة فقد أنبأ القرآن الكريم عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات].

 ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الصالحين في عهده كانوا يذهبون فقط للنظر في وجهه؛ لاعتقادهم أن النظر في وجوه الصالحين قربة إلى الله تعالى يذكره بالله، إذا شاهدوا الصالحين ذكّروهم بالله تعالى، وإذا شاهدوا العلماء ذكروا فيهم الخشية من الله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} [فاطر].

 وكان حاله مع الله ما دعا عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه دعوة إلا استجاب الله تعالى منه؛ لطول صيامه، ومعروف من علامات مجابي الدعاء كما ذكر بن أبي الدنيا أنه صوّام قوّام- أنهم صوّامون قوّامون، يعني يفترض فيمن كان صوامًا قوامًا أنه إذا رفع يديه إلى الله تعالى، فإن الله تعالى لا يردهما خائبتين أبدًا.

لأنهم أظمئوا نهارهم، وأحيوا ليلهم، والناس كلها تنام ثماني ساعات وزيادة وهم لا يشمون رائحة النوم. بل كان النوم لا يأتي إليهم وإذا ناموا ينامون هنيهة هكذا؛ لأن الله تعالى أعطاهم يقظة مثلما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نامت عيناه لا ينام قلبه.

وعرف عن هذا الجيل الصالح أنه جيل مجاهد يخرج مع المجاهدين، ويسبح مع المسبحين، ويبكي مع البكائين ولهم أحوال مع الله رب العالمين، ومن هذه الأحوال أنه لما حضرته الوفاة، وكان يبكي فقيل له: لم تبكي وقد كنت زاهدا في الدنيا؟ لست متعلقا بالعيش فيها؟ فقال: إني أخاف أن أحرم فضل الله في الآخرة.

وحسنت خواتيمه بطريقة لم أر مثلها في حياتي، فأنا أعيش مع الصالحين منذ أربعين سنة، والحالة التي مات بها تنطبق مع وفاة عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما ذهبوا لدفنه بالطائف وقد تشرفت وصليت في مسجده بالطائف- لما مات  عبد الله بن عباس نزل طائف كبير لم ير الناس مثله كأنه في حجم الطائرة، ونزل الطائر على قبره ورآه الناس كلهم. راجعوا كتب السيرة، سمعوا مناديا ينادي وهو يدخل القبر {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. حق له فهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وعالمها رضي الله عنه.

عمرو بن قيس الملائي لما حضرته الوفاة أوصى أن يصلي عليه أحد الصالحين أصلح واحد في زمانه، ويسمى أبو حيان التيمي، فلما تقدم أبو حيان التيمي وكبر أربع تكبيرات، وانتهى من الصلاة عليه سمعوا مناديا ينادي من السماء: جاء المحسن. يعني الملائكة الذين يستقبلونه، ثم شاهد الناس طائرا كبيرا ملأ كل المنطقة، ولم ير الناس مثله في كل حياتهم في الكوفة طائرا بهذا الجمال. فقال أبو حيان للناس، وهم واقفين لحمله: هذه ملائكة الله، يعني كانت واضحة وآلاف مؤلفة طير كثير ملأ المكان، فلما تقدموا لدفنه في منطقة صحراء التفت الناس وراءهم فوجدوا مملوءة رجالا يلبسون ثيابا بيضا، فلما انتهى الناس التفتوا خلفهم فلم يجدوا شيئا([2]). يعني استقبال عالي بصراحة.

هذا الاستقبال العالي الذي ذكره ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة) والإمام الذهبي رحمه الله تعالى في (سير أعلام النبلاء)،  يعطيك ملامح حلوة أن الله قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].        

عند خواتيمهم تعرف أعمالهم، قد يختلف الناس على بعض الناس، ولكن إذا أردت أن تعرف حالا عند الله سبحانه وتعالى، فانظر كيف ختم الله له؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) ([3]) وقال صلى الله عليه وسلم: (يبعث المرء على ما ختم عليه) ([4]) يعني قبل الموت في الحال التي كان عليه. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) ([5]) يوم القيامة، وحبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدوتهم وأسوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائدهم والهواء الذي يتنفسونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عندما أتحدث معكم عن مجابي الدعاء فإني أرقي نفسي يعني أحوال هؤلاء الناس أتعبوني، وعندما أصافح أمجادهم أرى أن الله تعالى أعطاهم همة لا يمكن لإنسان أن يتصورها إلا أن الله تعالى أعطاهم إعانة ومددا لا يليق إلا برجال الله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].

وسنطالع في الدروس القادمة نساء، فرجال تشمل رجالا ونساء بلغن في العبادة شأوا عظيما اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن في حاجة في أن يقوم الليل حتى تتفطر قدامه؛ لأن الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فتسأله السيدة عائشة رضي الله عنها، فيقول ردا جميلا كله جمال (أفلا أكون عبدا شكورا؟)([6]). يعني: أنا لا أصلي فقط عبادة ولا أصلي فقط فرحا بالعبادة ولكن أصلي لكي أشكر الله تعالى.

اللهم اجعلنا وإياكم من الشاكرين، واجعلنا وإياكم من الصالحين، اللهم كما كرمتهم فكرمنا، وكما نورتهم فكرمنا، وكما أسعدتهم فأسعدنا، واجعلنا وإياكم من السعداء واجعلنا وإياكم من الأتقياء الأنقياء، واجعلنا وإياكم من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 اللهم فرح قلوبنا بحب الصالحين، واجعل لنا حالا مثل حالهم، ونهاية سعيدة مثل نهايتهم، اللهم كما أحسنت خواتيمهم فأحسن خواتيمنا، وخواتيم أحبابنا يا الله واجعل الملائكة حاضرة عند غسلنا، وعند تكفيننا ودفننا، وعند زفافنا إليك، اجعل نهايتنا سعيدة، وطهّر قلوبنا بك ونور قلوبنا بحبك، وآنسنا بك كما آنستهم بك، وفرحنا بمناجاتك كما فرحتهم بمناجاتك، فما أطيب الدنيا إذا كنت راضيا عنا وما أتعس الدنيا إذا كنت ساخطا علينا، فلعلك ترضى عنهم بحبهم لعلك ترضى عنا بمجابي الدعاء، لعلك ترضى عنا بهذه الدروس الرمضانية الرضوانية التي فيها رضا وقبول في ليال عظيمة لعلها تشهد لنا ولكم يوم القيامة، اجعلها في رياض الجنة في أعلى الروضات.    

اللهم اجعلنا في الدنيا مع أهل الذكر، وأهل الطاعات وفي يوم القيامة مع الذين باعد الله بينهم وبين السيئات، اجعل صحيفتنا بيضاء، واجعل عملنا كله لك، وسعينا كله إليك، واجعل روحنا الآن تحلق في الملأ الأعلى، واجعلها ساعة فرج، في ليلة رمضانية عظيمة، كل الخلق يحتاجون إليك أن تقضي حاجتهم وأن تغيث لهفتهم، فأقسم بك عليك يا الله أن تغيثنا وإياهم الآن.

بنور وجهك إني خائف وجل
     

 

ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد
 

 

مهما لقيت من الدنيا وعارضها

 

فأنت لي شغل عما يرى جسدي
   

تحلو مرارة عيش في رضاك ولا

 

أطيق سخطا على عيش من الرغد
 

 

 ارض عنا الآن سامحنا الآن تب علينا الآن، اغسلنا الآن، فإن ذكر الصالحين هيج أرواحنا، وذكر مجابي الدعاء هيج أشواقنا، اللهم شوقنا إليك {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 - 21].

مولاي صل وسلم دائما أبدا

 

على حبيبك خير الخلق كلهم

  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



([1]) انظر صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 72).

([2]) انظر صفة الصفوة (2/ 73).

([3]) صحيح: رواه البخارى في صحيحه (6233) عن سهل بن سعد .

([4]) صحيح: رواه بنحوه مسلم في صحيحه (2878) عن ابن عمر.

([5]) صحيح: رواه البخارى في صحيحه (5819) ، ومسلم في صحيحه (2639) عن أنس.

([6]) صحيح: أخرجه البخاري في صحيحه (4837) ومسلم في صحيحه (2820) (81).

تصفح أيضا

المجيد

المجيد

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض