جعلتها لوجهك عندما نتكلم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سنرى العجب العجاب. هناك أشياء قد لا يستطيع الإنسان أن يصدقها. ظل الصدّيق رضي الله عنه على مدى حياته في المدينة يصلي الفجر، ويدور على بيوت الفقراء والعجائز يحلب لهم الشياه، ويكنس لهم البيوت، ويفعل ما يستطيع فعله، وكان هذا عبئًا ثقيلًا عليه، لكنه كان سعيدًا بلذة الطاعة، لأن للطاعة لذة، الإنسان يتذوقها فتعطيه قوة وقدرة على أن يستمرّ فيها. حتى لما ولي الخلافة قالت له امرأة، وقد أصبح الآن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تقدر أن تفعل الآن ما فعلته على مدى سنوات عمرك؟ فقال: نعم سأفعل وأفعل؛ لأنني جعلتها لوجه الله تعالى. "جعلتها لوجهك" من باب التوسّل والاستشفاع إليه والاعتذار لله تعالى. هذا موضوعنا في هذا الدرس: "جعلتها لوجهك". من محاسن الأعمال الصالحة أنك إذا أردت بها وجه الله تعالى صادقًا من قلبك، فإنك تُعان، لا يصيبك إرهاق ولا نصب ولا تعب؛ لأن الله تعالى لا يتخلّى عن أحبابه الذين ادّخروا حياتهم سعيًا في مرضاته، جعلتها لأجلك، جعلتها لوجهك، جعلتها لوجه الله. سلمان الفارسي رضي الله عنه كان أميرًا على منطقة تسمّى المدائن، وكان رحيمًا متعاونًا مع الناس، فكان يحمل معهم ويساعدهم، ولسان حاله كلما قيل له: لم تفعل هذا، وأنت أميرنا؟ فيقول: جعلتها لوجهك "جعلتها لوجه الله تعالى" فكان يُعان. وذات مرة نزل تاجر إلى بلاد المدائن، فشاهد سلمان الفارسي رضي الله عنه يحمل على كتفيه ما يحمله العُمّال والعبيد، ولم يكن يعرف أنه الأمير أو المحافظ، فنادى عليه التاجر أن احمل لي هذه الأشياء من هنا إلى مكان كذا، فلم يقل له: من أنا ومن أنت؟ لكنه قال: نعم، وحمل على كتفيه. وظلّ يحمل حتى قابله الناس، وهو يحمل على كتفيه والتاجر يمشي مختالًا، فقالوا له: أتجعل أميرنا يحمل عنك؟ اعتذر الرجل اعتذارًا شديدًا أنه جعل رجلًا في منتهى الأدب والوقار والعفة والنور والأمل يقول: نعم وحاضر. أين نحن من هذه الأخلاق في هذه الأيام؟ أين المواعظ ونحن في حاجة إليها. ربما عندما تنادي الأم على ابنها أن يحمل لها شيئًا، فإذا به يعترض ويغضب. إنما جئنا بهذه القصة؛ لكي نهذب أخلاق شعوبنا، وأبنائنا وبناتنا، وأحفادنا الذين يحتاجون أن يفعلوا من تلقائهم. لم يفرض أحدٌ على الصديق رضي الله عنه أن يدور على بيوت العجائز والأرامل ويحلب لهنَّ الشياه ويكنس البيوت وهكذا.. هذا أمر يفعله أقلُّ الناس حجمًا في الدولة، لكن رئيس الدولة وخليفة النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا وبمنتهى الانسيابية والوجه المبتسم والنور المضيء والثغر الباسم. هؤلاء رجال نتمنى أن نكون نصفهم، أو ربعهم أو شيئًا من التراب الذي يمشون عليه. أما عمر رضي الله عنه فعندما كان يُعَاتَبُ من الناس فكان يقول: "جعلتها لأجلك، جعلتها لوجهك، جعلتها لوجه الله. هذه قصة عمرية جميلة فريدة، أبثُّها إلى قلوبكم الطاهرة؛ كي نتعلم معاني الزهد والحب والإخلاص، أمير المؤمنين سيدنا عمر يذهب كي يزور الشام، ومعه بعيره، فوصل إلى مكانٍ يستحيل على البعير أن يتجاوزه لوجود ماء عظيم فيه، فنزل عمر رضي الله عنه من على البعير، ووضع نعليه تحت ذراعيه، ورفع ملابسه، وظل يخوض في الماء والطين حتى تجاوز الجانب الآخر. فقابله أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فأشفق عليه، وظهرت على وجهه علامات الاندهاش، وقال: أتفعل هذا وأنت عمر.. وأنت أمير المؤمنين؟! تخوض في الطين ولم تُشْعِر أحدًا بقدومك ولو علمنا موعد قدومك لجئنا؟ فقال رضي الله عنه: "جئت وأنا عمر وفعلتها وأنا عمر، وخطوت وأنا عمر، وتجاوزت وأنا عمر إنما أردت بها وجه الله". فيعيد عليه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين الأمة: "أتفعل هذا وأنت عمر؟" أتفعل هذا وأنت أمير المؤمنين؟ فيقول: نعم، ثم قال: "كنا أذلاء يعني: في الجاهلية فأعزّنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزّة في غيره أذلنا الله ". من كتاب قصة وموعظة لفضيلة الاستاذ الدكتور احمد عبده عوض الداعية والمفكر الاسلامي