بيوت تشتاق إلى
الإنفاق
من بين مكارم الأخلاق اليانعة فى البيوت المسلمة نعمة حب
الإنفاق وادخار المال ليوم تشخص فيه الأبصار، وفى صحابة رسول الله صلى الله عليهم وسلم
ومن بعدهم نماذج ضربوا أروع الأمثال فى الإنفاق والعطاء بنفس راضية مطمئنة، ينفق الزوج
فإذا الزوجة راضية تؤازرة وتساعده على طاعة الله سبحانه لعلمها وتربيتها أن فى مال
الله حقًّا، وفى كل ذى كبد رطبة أجر.
وإذا أردنا أن نبحث فى قصص السابقين إلى الله وفى نماذج بيوتهم
المنيرة بطاعة الله نجد هذه الصفة ملازمة لهذه البيوت المسلمة السعيدة تضيء فيها بنور
الإيمان، وتشيع فيها السعادة والرضا والقرب من الله، وهذه النماذج كثيرة نأخذ منها
العظات والعبر ونتخذها قدوة ومنهاجًا نسير على دربه:
لما قدم عمير بن سعد أمير حمص على عمر رضى اللّه عنه قال
له: ما معك من الدنيا يا عمير؟ قال: معى عصاى أتوكأ عليها وأقتل بها حية إن لقيتها،
ومعى جرابى أحمل فيه طعامى ومعى قصعتى آكل فيها وأغسل فيها رأسى وثوبى ومعى مطهرتى
أحمل فيها شرابى ووضوئى للصلاة، فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معى فقال له
عمر صدقت رحمك الله، وكان عمر رضى اللّه عنه قد كتب إلى أهل حمص أن عدوا لى فقراءكم
فسمّوا له فى الكتاب نفرًا وذكروا فيهم عمير بن سعد فقال عمر: من عمير بن سعد؟ فقالوا
أميرنا يا أمير المؤمنين، قال: أو فقير هو؟ قالوا: نعم ما فينا أفقر منه، قال: فما
فعل عطاؤه قالوا: يخرجه كلّه لا يترك لنفسه ولا لأهله شيئًا منه، فوجه إليه عمر رضى
اللّه عنه بأربعمائة دينار وسأله أن ينفقها على نفسه وأهله، فلما وصلت إليه دخل على
زوجته وهو يبكى فقالت له ما شأنك؟ مات أمير المؤمنين؟ قال: أعظم من ذلك قالت: فتق فتق
فى المسلمين؟ قال: أشدّ من ذلك، قالت: فما هو؟ قال: أتتنى الدنيا قد كنت مع رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم فلم تفتح الدنيا على وكنت فى أيام أبى بكر رضى اللّه عنه فلم تفتح
الدنيا على وخلفت إلى أيام عمر رضى اللّه عنه ألا وشّر أيامى أيام عمر،ثم حدثها فقالت:
نفسى فداؤك فاصنع بها ما بدا لك فقال: أو تساعدينى على ما أريد؟ قال: نعم، قال: أعطينى
خلق ذلك البرد قال: فجعل يمزقه ويصرها فيه صررًا ما بين العشرة والخمسة والثلاثة حتى
أفناها ثم جعلها فى مخلاة وتأبطها وخرج فاعترض جيشًا من المسلمين يريدون الغزو فجعل
يدفع إليهم صرّة صرّة على نحو ما يرى من حالهم ثم رجع ولم يترك لأهله منها دينارًا؛
فهذه كانت شمائل جملة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان رضى
اللّه تعالى عنهم.) [قوت القلوب لأبى طالب المكى (1/358)].
فانظر إلى هذه الزوجة الصالحة تتنازل راضية عن المال الكثير
وترضى بأن يقسم زوجها ما جاءه من الأموال في سبيل الله بنفس راضية، وترضى أن تعيش عيشة
الكفاف وهى زوجة أمير من الأمراء، محتسبة ذلك عند الله سبحانه راغبة في التقرب إليه
وفي محبته وطاعته.
وعن طلحة بن يحيى، عن عمته، سعدى بنت عوف، قالت: دخل طلحة
بن عبيد الله على بعض أزواجه وهو حزين، فقالت له: ما الذى أحزنك؟ قال: اجتمع عندى مال.
قالت: فأرسل إلى قومك فاقسمه بينهم. فأرسل إلى قومه فقسمه فيهم، فسألت الخازن: كم قسم
يومئذ؟ قال: أربعمائة ألف [ إصلاح المال لابن أبى الدنيا (93)].
وعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه فى قوله: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] قال: نزلت فى رجل من
الأنصار أرسل النبى صلى الله عليه وسلم معه ضيفا من أضيافه، فأتى به منزله، فقالت له
امرأته: ما هذا؟ قال: هذا ضيف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والذى بعث محمدا
بالحق ما أمسى عندنا إلا قرص، فذلك القرص لى أو لك أو للضيف، أو للخادم، قال: أثردى
هذا القرص، وآدميه بسمن ثم قربيه، وأؤمرى الخادم يطفئ السراج، وجعلت تتلمظ هى وهو حتى
رأى الضيف أنهما يأكلان، وأصبح فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: «أين صاحب الضيف؟» ثلاث مرات، والرجل ساكت، قال: أنا صاحب
الضيف، قال: «حدثنى جبريل أن الله تعالى عز وجل ضحك حين قلت لخادمك: أطفئ السراج، ونزلت
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] [قرى الضيف لابن أبى الدنيا
(10)].
هذا هو البيت المسلم الذى تتفق فيه رغبة الزوج مع الزوجة
على طاعة الله وعلى الإنفاق والكرم، لقد كانت الزوجة فى بيوت سلفنا الصالح تشعر بالغبطة
والسعادة والرضا حينما يخرج زوجها من بيتها ومن قوتها وقوت أبنائها ليدخره عند الله
بغية للأجر والثواب والنجاة يوم الحساب.
وفى هذا السياق نتذكر نبى الرحمة عليه الصلاة والسلام عندما
تصدقت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشاة وأبقت له الكتف، لأنه كان يحبه من الشاة
الكتف، قالت له عائشة: ذهبت الشاة وبقى الكتف يا رسول الله، قال بل قولي: (ذهب الكتف
وبقيت الشاة)!! فكان ما ينفقه أحب إليه مما يبقيه، وهذا سر من أسرار السعادة يكتشفه
العلماء.
حيث يؤكد الباحثون اليوم أن من أهم أسباب كسب المال أن تنفق
شيئًا من المال على من يحتاجه! وهذا يعنى أن الإنفاق هو سبب من أسباب الرزق! وهذا ما
أكده القرآن عندما ربط بين الإنفاق وبين الرزق الكريم، يقول تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:
3-4].
ويؤكد القرآن على أهمية الإنفاق، والتصدق بشيء من المال على
الفقراء والمحتاجين، ويؤكد على أن الذى ينفق أمواله فى سبيل الله لا يخاف ولا يحزن،
أى تتحقق له السعادة! يقول تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261-262]. وفي القرآن آيات كثيرة تربط بين الصدقة وبين
سعادة الإنسان فى الدنيا والآخرة، وأحاديث كثيرة تحضنا على الإنفاق والإحساس بما يعانيه
أخواننا المسلمون من شظف العيش وتكاليف الحياة والحاجة إلى العطاء.
ومن نعم الله سبحانه أن يرزق الله الزوج المسلم زوجة تحب
الإنفاق وتحضه عليه وترى فيه كنزًا مدخرًا للآخرة، ومن نعم الله أيضًا أن يرزق الله
الزوجة الصالحة زوجًا يحب الصدقة والعطاء، والإنفاق فى سبيل الله سبحانه فيعينها على
طاعة الله ويربى فيها حب العبادة والقرب من الله ويحيا معها حياة إيمانية تثمر فيها
أشجار السعادة فى الدنيا والآخرة. فهنيئًا لبيوت ادخرت من دنياها لآخرتها، واشترت حب
الله وطاعته بما تملك من رزق الله وعطاياه.