بيوت الاعتذار والتواضع

الرئيسية المقالات مقالات دينية

بيوت الاعتذار والتواضع

بيوت الاعتذار والتواضع

الاعتذار يزيد المكانة والقدر والمحبة، ولا ينقص من صاحبه شيئًا، وأولى الناس بالاعتذار هو الزوج إذا بدر من زوجته ما يغضبه، فربما كلمة اعتذار ومحاولة استرضاء ملأت قلب الزوج حبًّا ومودة لزوجته العمر كله، وأولى الناس بالاعتذار الزوجة إذا بدر من زوجها في غمرة أعباء الحياة ما يكسر خاطرها فيسعى الزوج الصالح إليها مطيبًا لنفسها ساكبًا من حنانه ما يملأ البيت مودة لا تنقطع، وسعادة دائمة يحوطها التواضع والرحمة والمشاعر الودودة المتبادلة بين الزوج وزوجته في أسرة تتحلى وتكتسي بأدب الإسلام.

يعجبني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة: الودود، الولود، الغيور على زوجها، التي إذا آذت أو أوذيت جاءت حتى تأخذ بيد زوجها ثم تقول: والله لا أذوق غمضا حتى ترضى عني، هي في الجنة، هي في الجنة، هي في الجنة) رواه النسائي. ومعنى الجملة الأخيرة غمضًا: أي لا أنام ولا يستريح لي بال.

وسئل أعرابي عن أحسن النساء؟ فقال: أفضل النساء: أصدقهن إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئا أجادته، التي تلتزم بيتها، ولا تعصي زوجها، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.

كم من بيوت خربت، وكم من قضايا رفعت، وأضاعت الوقت والجهد والمال وكان يكفي لوأدها في مهدها كلمة واحدة فقط وهي كلمة الأسف أو الاعتذار، والتي لو قيلت بعد مرور وقت لن تجدي نفعًا، ولن يكون لها أية قيمة ولا أثر، فلِم تتكبر عنها النفوس التي تعلم أن العودة للحق خير من التمادي في الباطل؟.

إن لنا في خير الناس صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، إذ نراه يرق لرجل ويكرمه لمجرد أنه عبس في وجهه مرة واحدة - وهو أعمى لم ير ذلك العبوس- بعد أن أنزل الله في شأنه قرآنًا معاتبًا نبيه صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أبي يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يكلِّم أُبي بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه)، ونجده صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يطيب خاطره وهو الأعمى الذي لا يستطيع القتال، فنجده في غير مرة يوليه الإمارة على المدينة عند خروجه صلى الله عليه وسلم للقتال.

ولنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في قبول اعتذار المعتذر، فكان لا يرد معتذرًا لما كان فيه من كرم نفس وحسن خلق. ليس من يعتد بنفسه حقيقة من يأبى الاعتذار إن أخطأ، ولكن المعتد بنفسه المكرم لها هو من يصون نفسه ولا يوردها مورد الخطأ كي لا يُضطر إلى الاعتذار، ففي المعجم الأوسط للطبراني عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )...وإياك وما يُعتذر منه)، ويوصى بها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ولده عند موته فيقول: (وإياك وما يُعتذر إليه من العمل والقول واعمل ما بدا لك) رواه الطبراني في الكبير.

وما كانت التوبة إلى الله سبحانه إلا المظهر الأسمى للاعتذار، حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادمًا باكيًا يقول كما قال أبواه بعد أول ذنب ارتُكب بين البشر: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وما كان مَن الله وكرمه ومغفرته إلا أنموذجًا علويًا لقبول المعذرة من المخطئين التائبين المعتذرين.

هناك منزلة عظمي لا يدركها إلا كل من صفا قلبه وسمت روحه، وهي التماس الأعذار للمخطئين حتى قبل أن يعتذروا هم بأنفسهم، فالمدرك لحقائق النفس البشرية الذي يعرف دروبها ومسالكها جيدًا قد يجد الأعذار للمخطئ بمجرد وقوع الخطأ، فيسلم قلبه من أي عرض يؤثر عليه وتسلم جوارحه من أي فعل قد يرتكبه ساعة غضبه، ففي البخاري قال أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصفحة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: (غارت أمكم) ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت).

خلق الاعتذار وقبول العذر وقاية للأسرة من تفشي سوء الظن وتقاذف التهم والتي إن استقرت في القلوب والبيوت فلن يفيد معها اعتذار. لقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان (ابن آدم) بالخطَاء وليس المخطئ، وهي صيغة مبالغة تدل على تكرار الخطأ، فقال: (كل ابن آدم خطاء وإن خير الخطائين التوابون) رواه الترمذي. وليس على وجه الأرض بشر معصوم من الخطأ، ولكننا جميعا نخطئ ونصيب، وإن خير البشر من يعترف بخطئه ويقر به ويعتذر عنه ويعمل على إصلاحه ما أمكنه ذلك.

الاعتذار أدب وخلق اجتماعي وهو من أقوى الصفات التي تدل على تواضعك وتسامحك وهو أسلوب يحسن صورتك ويبعد عنك سوء الظن حين يصدر منك الخطأ لذا علينا بالاعتذار عند الخطأ كما علينا قبول العذر والعفو وتلمس الأسباب لمن قد أخطأ في حقنا.

خذ من أخيك العفو واغفر ذنبه

 

ولا تك في كل الأمور تعاتبه

فإنك لن تلقى أخاك مهذبًا وأي

 

امرئ ينجو من العيب صاحبه

يقول ابن القيم الجوزية في كتاب مدارج السالكين: من أساء إليك ثم جاء يعتذر عن إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، وعلامة الكرم والتواضع أنك اذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجه.

أقلل عتابك فالبقاء قليل

 

والدهر يعدل مرة ويميل



 

ولعل أيام البقاء قليلة

 

فعلام يكثر عتبنا ويطول


 

ولأن بعض الناس قد يزهد في العفو وقبول العذر؛ لظنه أنه يورثه الذلة والمهانة فقد أتى النص القاطع يبين أن العفو يرفع صاحبه، ويكون سبب عزته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) (رواه مسلم).

الاعتذار ينفي عن صاحبه صفة التعالي والكبر، ويمنحه المصداقية والثقة في قلوب الآخرين، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد، ويقضي على الحسد، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به، والارتياب في تصرفاته.

إنك باعتذارك لأقرب الناس إليك تحول بيتك إلى جنة للتسامح والرضا والمحبة، وتنفي عنك صفة الكبر التي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منها. نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا نسعى إلى طاعته ومحبته ورضاه، بقلوب كسيرة ونفوس متواضعة لعظمة الخالق الكريم إنه نعم المولى ونعم النصير.

تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض