الرضا باب الله الأعظم
نعمة الرضى نعمة تحول البيوت إلى جنات باسقات تنبت فيها
زهور السعادة ويحفظها الله ويمطر عليها رحمته ورضاه. ويبدأ الرضا من عقيدة الإنسان
فيرضى بكل ما كتبه الله له ويرى فيه مظهرًا من مظاهر رحمة الله وحسن اختياره
لعبده. قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه
بمعنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: (لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان
خيرًا له: إنْ أصابته سرَّاء شكر، كان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرَّاء صبر، كان خيرًا
له، وليس ذلك إلا للمؤمن) [رواه مسلم]. فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في
المصائب:
- الدرجة الأولى: أنْ يرضى بذلك، وهذه درجةٌ
عاليةٌ رفيعة جدًا. قال الله تعالى: {مَا
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
قال علقمة: هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ، فيعلم أنَّها من
عند الله، فيسلِّمُ لها ويرضى.
وقال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أنْ
يُرضى به.
وقال ابن مسعود: إنَّ الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوحَ
والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشكِّ والسخط.
وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع
القضاء والقدر.
فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ
وسرورٍ، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. [النحل: 97].
قال بعض السَّلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة.
وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة
الدنيا ومستراح العابدين.
والدرجة الثانية: أنْ يصبرَ على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء، فالرِّضا فضلٌ
مندوبٌ إليه مستحب، والصبرُ واجبٌ على المؤمن حتمٌ، وفي الصَّبر خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ
الله أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر. قال الله - عز وجل -:{إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. فالرضا بالحال يجلب
لصاحبه طمأنينة النفس وهدوء البال، ويشيع البهجة في حياته، فرحا بكل قليل. أما
السخط فما يزيد الإنسان إلا اضطرابا دائما، وتمردًا وحقدًا وحسدًا، وكآبة مهما
تعددت عنده الخيرات، فهو دائما يريد المزيد، بل ويشعر داخل نفسه أنه لا يملك إلا
القليل.
علينا أن ننظر لأحوال الآخرين خاصة المهمومين
والمكروبين، وأصحاب المصائب المختلفة، فمن تفكر في أحوال هؤلاء هان عليه كل ما هو
فيه من مشاق، وإلى هذا يلفتنا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا من دعاء عند
رؤية أهل البلاء (الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به).
علينا ألا ننظر إلى الوراء، وألا نندم على ما فات من
أعمارنا دون تحقيق ما نريد، بل يجب الاهتمام بالأيام القادمة مهما كانت قليلة
فالأعمال بالخواتيم، فلا قيمة للندم المجرد إلا أن يكون ندما على معصية الله
سبحانه وعزمًا على الطاعة فهذا حسن مراد، لكن الندم على ما فات من كسب الدنيا لا
يؤثر بشىء إلا جلب الأحزان والقعود عن النجاح.
ومن ثمرات الرضا الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك؛
لأن المؤمن يعتقد أن النافع والضار، والمعز والمذل، والرافع والخافض هو الله وحده
سبحانه وتعالى والثبات عند مواجهة الأزمات، واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت
ويقين صادق.
ومن ثمرات الرضا أنه يهدئ روع المؤمن عند المصائب وعند
فوات المكاسب، فلا تذهب نفسه عليها حسرات، ولا يلوم نفسه أو يعنفها، بل يصبر ويرضى
بحكم الله تعالى، ويعلم أن هذا هو عين قضاء الله وقدره، وأنه يدفع الإنسان إلى
العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت.
قرب العبد ووصاله بربه بالعبادات والتوبة والاستغفار، يبث
داخله الرضا والسعادة الحقيقية.
فلا يحزن من كان
حظه من الدنيا قلة المال أو عدم الإنجاب، لأنه قد يجلب المال والولد على صاحبهما
الهموم والأحزان، فكم من صاحب أهل وولد ولكنهم غير صالحين، فكانوا من أسباب تعاسته،
وأحزانه، واضطراب نفسه، وكم من غنى لا يفارق الشقاء جنبيه، وكم من صاحب جاه ومنزله
لكنه لم يذق طعم الاستقرار وراحة البال، فهي زينة مؤقتة، لا تخلو من المنغصات
والمسؤوليات التي تحد من الاستمتاع بها، بينما نجد إنسانًا لم يحظ بكثير من مال أو
جاه أو يفتقد الأهل والولد لكن صدره أوسع من الأرض نفسها، مؤتنس راض بقضاء ربه.
لابد أن يعلم المؤمن أن السعادة هى سعادة الحياة الآخرة،
والشقاء الحقيقى ليس بنقص مال ولا ولد ولكنه شقاء الآخرة، {يَوْمَ يَأْتِ لَا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]
وقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 8 - 10].
من سعى نحو الرضا مخلصا ملأ الله قلبه بالرضا مهما زخرفت
الدنيا أمامه، فلا يتأثر بما يجد عند غيره، فالصادق غنى والكاذب في ضيق دائما، والتقي
غنى والفاسق في وحشة مستمرة، وفاعل الخير غنى وفاعل الشر متحسر من سوء عمله، والعالم
غنى بعلمه والجاهل فقير لضيق وعيه، والصابر غنى مستبشر بجزاء صبره والقانط حزين، والواصل
لرحمه غنى والقاطع لرحمه فقير مهما كان عنده من المال، والبار لوالديه غنى ببركة
بره والمسيء لهما فقير محروم من نعمة البر، والمتصدق الكريم غني؛ لأن الله تعالى
يخلفه جزاء عطائه بل ويضاعفه له والبخيل مهما كثر ماله فقير؛ لأنه يشعر بأنه يريد
المزيد، والذاكر لله تعالى غني واللاهي عن ذكره فقير، والمطيع لله تعالي سعيد غني
والبعيد العاصي فقير شقي، فمن يفتقد هذه الصفات الحسنه لا يعرف للسعادة طريقا مهما
تناثرت عليه الثروات والنعم، لم يشعر بقيمتها بل يعيش دائمًا مضطرب الأحوال ضيق
الصدر.
فلو رضينا بما
عندنا سعدنا، ولو سخطنا شقينا، ولو رضينا بالقليل من الطعام شبعنا، ولو رفضنا
وتبطرنا شعرنا بالفقر، ولو رضينا بما عندنا من ملبس ومسكن هدأ بالنا، ولو نظرنا
لما هو أعلى منا تعبنا، فلماذا لا نرضى وقد يأتي يوم تفحص فيه الأعمال، ويكثر فيه
الزلزال، وتشيب فيه الأطفال. لماذا لا نرضى ونحن نعلم أن أيامنا القادمة هي بقية
أعمارنا، فإذا كنا نحلم بالغنى فإن خير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى وخير
ما ألقي في القلب اليقين، فارض بما قسم الله تعالى لك تكن أغني الناس.
نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا الرضا عن كل ما يقضيه
لنا في الدنيا والآخرة.