التسامح بين الأمس واليوم... (صور ومقارنات ومفارقات)
التسامح بين الأمس واليوم... (صور ومقارنات ومفارقات) لقد تجلت سماحة الإسلام في معاملة مخالفيهم من العقيدة، فإننا بصدد موازنة بين سماحة الإسلام وقسوة وغيره. (أ) قسوة اليهودية على خصومها: جاء في العهد القديم (حين تقرب من مدينها لتحاربها ادعها إلى الصلح، فإن إجابتك وفتحت لك فكل من فيها مسخر لك مستعبد. وإن لم تسالمك وحاربتك فحاصرها فإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فهو غنيمة لك( ). ولقد قتل بنولادي ثلاثة آلاف رجل من شعب إسرائيل جزاءٌ لهم على عبادة العجل. وأرسل موسى اثنى عشر ألف رجل لمحاربة أهل مدين فحاربوهم وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم وخمسة ملوك، وسبوا نساءهم وأولادهم. (ب) قوة الدولة الرومانية والبيزنطية: عندما اعتنق بعض المصريين النصرانية، فنكلت بهم الدولة الرومانية الوثنية، وطاردهم الوثنيون من الشعب، حتى لقد سالت دماؤهم بشوارع الإسكندرية سنة 202م. ونفي كثير منهم، وقتل آخرون بالسيف، أو أحرقوا بالنار أو الذبح؛ قربانًا لآلهة الوثنية سنة 205م. وقد اشتهر بطريق الإسكندرية (كيرولص) 412م بالقسوة والغلو في اضطهاد مخالفي المسيحية، ولاسيما اليهود الذين كانت معابدهم تهاجم بالقوة المسلحة، وكانت أموالهم وديارهم عرضة دائمًا للسلب والنهب( ). وتحمل المسيحيون في حكم الدولة البيزنطية، فقد أجبر الأقباط على طاعة الكنيسة الرسمية في القسطنطينية، كان هذا عام 602م في عهد الإمبراطور فوقاس، وكان هذا هو نفس حالهم في عهد خلفه هرقل 641م. ولذا فلا نعجب أن يرحب الأقباط بالمسلمين الفاتحين. ولا غرابة في قول المؤرخ المسيحي ميخائيل السوري: إن الله المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء؛ لينقذوا الأمم من عسف الرومان، ومن مظالم الروم. (ج) شهادات غير المسلمين للإسلام: يتضح الفرق في الحرية الدينية من الموازنة بين الحرية والسماحة في ظلال الحكم الإسلامي وبين العسف والاضطهاد قبله. وليس أدل على تسامح الإسلام والمسلمين من أنهم احتملوا بصدر رحب تحرش المسيحيين بالإسلام في قرطبة، وطعنهم في النبي الكريم. وقد شهد البطريق (عيشويابه) 647هـ بأن (العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون: أنهم ليسوا أعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قديسنا وقسيسنا، ويمدون يد العون إلى كنائسنا وديننا. وقال ميشو في (تاريخ الحروب الصليبية): لما استولى عمر على مدينة أورشليم لم يفعل بالمسيحيين ضررًا مطلقًا، ولكن عندما استولى المسيحيون قتلوا المسلمين ولم يشفقوا، وأحرقوا اليهود إحراقًا. وقال السير توماس أرنولد (أستاذ بمعهد اللغات الشرقية بلندن) لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة. واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة). ويقرر كذلك في كتابه (الدعوة إلى الإسلام): أن الكنيسة المسيحية قد قويت، وتقدمت في رعاية المسلمين وحكمهم، فلم يمنعها الحكم الإسلامي من التقدم والرقي، بل نشروا المسيحية تحت راية الإسلام، ووصلوا بدعوتهم بلاد الصين والهند تحت رعاية الخلفاء. بل لقد كان الحكام هم الذين يمنعون اضطهاد بعض المسيحيين لبعض، ويكلفون لهم جميعًا الحرية الدينية( ) ثم يضيف: (تحت نظام من الأمن يضمن الحرية في الحياة والملكية تمتع المسيحيون وبخاصة في المدن بثروات كبيرة، ونجاح عظيم، فكان منهم ذوو النفوذ الكبير في قصور الحلفاء ممن ارتقى لدرجة وزير، أو رئيس للوزراء كما حدث في عهد المعتصم). ويمتدح كتاب الغرب تسامح المسلمين، وحسن معاملتهم للمسيحيين ببقاء كنائسهم هذه القرون الطويلة في الشرق الإسلامي، وإشاعة المودة من المسلمين والمسيحيين ولم تأت رياح التعصب إلا من أوروبا، التي كويت بنار الطائفية والمذهبية. وإذا عدنا لنماذج من شهادات غير المسلمين، نجد أحد الرهبان المسيحيين يقرر إسلام ثلاثة آلاف من الصليبيين في الحرب الصليبية الثامنة سنة 1118م. كما يقرر السير توماس أرنولد في موضوع آخر من كتابه المشار إليه: "لقد زاد اختلاط النصارى الصليبيين بالمسلمين على مر الأيام، وزاد معه احترام الصليبيين لهم، وتقديرهم لمزاياهم وفضائلهم، واقتدى أمراء الصليبيين بالمسلمين في تسامحهم الديني. ويذكر كاتب غربي آخر هو "آلان بيرنز"، في كتابه التفرقة بين الأجناس والألوان: أنه من المقرر أن الإسلام كان أكثر تسامحًا من الدين المسيحي في الفخر والمباهاة بالأصل والعنصر والتعصب للفكرة القومية. وهو لا يبالي بألوان البشرة والطوائف ويحطم الحواجز التي تقام بين الناس. وشوهد أن الغزاة العرب تزوجوا بمحض إرادة الطرفين نساء من بلاد وأصول غير عربية، كما زوجوا بناتهم المسلمين من السود، وهذه حقيقة بعيدة المدى. ويمكن القول: إن سماحة الإسلام وتسامح المسلمين من العوامل القوية الفعالة في انتصارهم السريع، وفتحهم الخاطف، إذ لم يجدوا مقاومة عنيفة من الشعوب. وقد غفل "نابليون بونابرت" عن هذا العامل الفعال في تعليله لانتشار الإسلام، وقوله: أن وراءها علل به سرًا لا يعلمه، وفي قوله: إننا إذا طرحنا جانبًا الظروف العرضية التي تأتي بالعجائب، فلابد وأن يكون من وراء انتشار الإسلام سر لا نعلمه، وأسباب مجهولة مكنته من الانتصار السريع على المسيحية. وربما كانت هذه العلة المجهولة أن هؤلاء القوم الذين وثبوا فجأة من أعماق الصحاري قد صهرتهم قبل ذلك حروب داخلية عنيفة، تكونت في أثنائها أخلاق قوية، ومواهب عبقرية، وحماسة غلابة. والحق أن هذه العلة ترجع إلى ضيق الشعوب بما كانت تعاني من عسف حكوماتها، واضطهاد رجال الدين، وترجع إلى سماحة الإسلام، وما حمله من صفاء في العقيدة، وسمو في التشريع. وها نحن نقدم مثالًا واحدًا فقط من نماذج لا حصر لها، لبطل إسلامي اشتهر بالتسامح.