عندنا كلمتان مفتاحيتان في هذه
الحكمة التراثية، الكلمة الأولى: الوَجَل، والكلمة الثانية: الأجل، فالتوبة خطوة
فارقة في حياة المسلم، والناس على أنواع في التوبة، ما بين توبة الكاذبين، وتوبة
الصادقين، وتوبة بين الكاذبين والصادقين.
أما توبة الكاذبين، فهم الذين
يتوبون بألسنتهم لا بقلوبهم، الذين يقولون ما لا يفعلون، الذين يُعربون عن توبتهم،
وسريعًا ما يرتدون إلى أبواب المعاصي ومنافذ الشيطان، قال يحيى بن معاذ رحمه الله
تعالى: ((هذه توبة المتلفظين بألسنتهم))، أي: الكاذبين.
أما توبة الصادقين فهم الذين
تتسابق قلوبهم إلى التوبة، قبل أن ينطقوا بها بألسنتهم، فهم في حالة من التركيز في
العودة والخوف والوجل من الله عز وجل.
إذا جمعت بين التوبة والوجل
فأنت على مرتبة الصديقية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا
وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].
فعندما نصل إلى كلمة (وجلة)، فقد وصلنا إلى مرحلة الإيمان العالي، ومعنى الوجل؛ أي
أن التائب يحلف على نفسه ألَّا يعود إلى المرحلة الصفرية، وقد لا تصح توبته إذا
خالف العهد مع الله عز وجل.
ومعنى خالف العهد مع الله أي:
أن الذي يتوب له بيعة، والذي كان يفعل المحرمات ثم تاب أول ميثاق التوبة أنه يُبرم
عهدًا مع الملك ليس للشيطان فيه نصيب، وبعد أن يتوب مع صدق التوبة وصحتها وأنه لا
يرجع إلى الخلف، فلو عاد إلى الخلف فمعنى هذا أنها توبة الكاذبين، وأنه لم يكن صادقًا
مع الله عز وجل، فالذي يقول: إني تبت الآن، ولا زالت نوافذ المعصية مفتوحة أمامه،
فهذه توبة معلقة.
خدعوك فقالوا: إن الإنسان
عندما يتوب يكفيه أن يقول تبت إليك يا رب، إني نادم، إني آسف، لن أقارف الذنب مرة
ثانية...، لا! هذه توبة الكاذبين، لكن
توبة الصادقين، توبة عمل، ومعنى عمل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ
لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، هذه هي التوبة العملية، إذا
أردت أن تتوب، فعليك أن تتصدق، وتطعم الطعام، وتغير المكان الذي كنت تسكنه، وتغير
الناس الذين أركسوك في المعاصي، فالتوبة تغيير.. تغيير كامل، والتغيير الكامل هو
سنة الصادقين مع الله عز وجل، قال تعالى: { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، أي من لم يعاود التوبة بعد التوبة، كما قال سيدنا
صلوات ربي وسلامه عليه: ((إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، وإنِّي لأَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ، في اليَومِ مِئَةَ مَرَّةٍ))([1]).،
هذه هي التوبة بعد التوبة.
أي أن سيدنا صلى الله عليه
وسلم يستغفر في المجلس الواحد أو في اليوم الواحد، مائة مرة، ويغان على قلبي، ليس
معناه أن النبي يرتد عن توبته، فالنبي ليس في حاجة إلى توبة أصلًا، إنما يغان على
قلبي أي تزداد الأنوار على قلبي.
وعندما تزداد هذه الأنوار على
قلبي، فإني حريص على استدامتها، بماذا؟ بالاستغفار، إنه ليغان على قلبي، أي تتوافد
الأنوار على قلب سيدنا صلوات ربي وسلامه عليه، وعندما تأتي هذه الأنوار فإنه يحافظ
عليها، فيستغفر الله تعالى في المجلس الواحد سبعين مرة، أو مائة مرة ففي الحديث عن
ابن عمر رضي الله عنهما(( ربَّما أعُدُّ لِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في
المجلِسِ الواحدِ مِئةَ مرَّةٍ: ((ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ علَيَّ إنَّكَ أنتَ
التَّوَّابُ الرَّحيمُ))([2]).
لكن المرحلة الأساسية أن
التوبة استشعار الوجل إلى الأجل، فيها يبقى التائب متأرجحًا مع نفسه، هل قُبلت مني
توبتي أم لا، هل ممكن بعد الذنوب والمعاصي والآثام التي فعلتها، وبعد الأرحام التي
قطعتها، وبعد.. وبعد، هل ممكن يتوب عليَّ ربي؟ يبقى في حالة وجل، {وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ
رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] وهي المرحلة ((الشفقية))، وهذا مصطلح جديد من تعبيراتي
الإيمانية، معنى ((الشفقية)): {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} وهو احمرار أو اصفرار
الشمس عندما تدخل في مرحلة الغروب، تصفرّ ثم تدخل في مرحلة الاحمرار، ويعد هذا
احمرار نسبيًّا، ثم تحمرَّ في آخر لحظة، هذه ثلاث مراحل في غروب الشمس، وهذه
المراحل الثلاث اسمها الشفق، من اصفرار إلى احمرار، إلى احمرار أشد، ثم تغرب الشمس
عنا، وهي في منتهى الاحمرار، لماذا الشمس مشفقة ومتحولة، ووجلة، لماذا؟ لأنها دخلت
في مرحلة السجود تحت عرش الرحمن، الشمس تحمر عند الغروب؛ لأنها داخلة في مرحلة
السجود، وهي وجلة أن تكون بين يدي قيوم السموات والأرض.
إذن التوبة استشعار الوجل إلى
الأجل، ليس هذا فقط في التوبة، إنما هذا ميثاق عمل في حياة المؤمن، ويحسن في صلاته
ولا يدري، هل قبلها الله تعالى منه أم رُدَّت عليه، هذا وجل.
كان الصالحون يبكون ليلة
العيد، رغم أنهم صاموا، وقاموا، وتهجدوا، وختموا القرآن، وكان عمر بن عبد العزيز،
رضي الله تعالى عنه يبكي بكاء شديدًا ليلة عيد الفطر، وعندما يسألونه لماذا تبكي؟
يقول: لست أدري هل قبل الله تعالى مني صيامي وقيامي وصبري وجهادي، أم رده عليَّ في
وجهي، فالمعني المقصود، أنت يا عمر تستأنف مرحلة جديدة، انتهى رمضان، وتبدأ أنت في
رمضان، انتهى رجب، وتبدأ أنت في رجب المقصود من هذا، في هذه الحكمة التوبة استشعار
الوجل إلى الأجل، الشخص يعمل العمل الإيماني، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}
[المؤمنون:60] أي يعمل خيرًا كثيرًا، فهذه تجارة رابحة مع الله عز وجل، تسارعون في
الخيرات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
ورغم هذا هو خائف، خائف من ماذا؟ من احتمال عدم قبول هذه الأعمال، ولم ترتفع إلى قيوم السموات والأرض، فيبقى في حالة وجل إلى أن يلقى الله تعالى وهو على هذه الحالة، فإذا لقي الملك وهو في حالة الوجل غفر الله تعالى له، والحديث في صحيح ابن حبان، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه، ونصه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَروي عن ربِّه جلَّ وعلا قال: ((وعزَّتي لا أجمَعُ على عبدي خوفَيْنِ وأمنَيْنِ إذا خافني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ وإذا أمِنَني في الدُّنيا أخَفْتُه يومَ القيامةِ))