علاجُ أُمِّ مِلْدَم (الحُمَّى والعِرْقِ النَّعار)

الرئيسية المقالات مقالات دينية

علاجُ أُمِّ مِلْدَم (الحُمَّى والعِرْقِ النَّعار)

علاجُ أُمِّ مِلْدَم
(الحُمَّى والعِرْقِ النَّعار)
بداية نوضح مجموعة من الأمور التي يستحسن أن نتوقف عندها في البداية من باب التوضيح، وهي أنَّ الابتلاءات مع شدتها وقوتها هي في النهاية لمساتُ رَحْمَةٍ حَانِيَةٍ من الله، وربما لا يستشعر كثيرٌ من النَّاسِ معنى الإيمان، ومعنى الطَّلب، ومعنى الإلحاح في الدُّعاءِ إلا عندما تشتد الأزمات عليهم، وعندما يشعرون بحالةٍ من الانتكاسةِ في حياتهم، ويشعرون بحالةٍ من الواقعِ المريرِ الذي لن يستطيعوا أبدًا مواجهته إذا كانوا وحدهم في هذا الكون، ويأتي أُنسُ المؤمنِ باللهِ، ويأتي استئناسُ المسلمِ بربهِ والذِّكرِ والتَّضرعِ والمُناجاة بابًا من أبوابِ الفَرَجِ والرحمةِ، ومن أبوابِ فَضْلِ اللهِ على عِبادهِ، ومن ثم ستسمعون يا أحبائي كلمةً تتكرر كثيرا، وهي كلمة: "المُكَفِّرَات"، وهي كلمة تُوحي لك بتساقطِ الذُّنوبِ عن الإنسانِ، بمعنى أنَّ هناك مُكفِّراتٍ تجعل الصَّبرَ على البلايا، والصَّبرَ على المصائب له مكافأة، ومكافأتها أنَّ هناك مكفرات للذنوب، والمكفرات للسيئات والأوزار التي يرتكبها الإنسان في هذه الحياة؛ فالمكفرات عبارة عن مَاسِحَاتٍ للأحزانِ ومَاسِحَاتٍ للآلآم.
أُمُّ مِلْدَم:
(أم مِلدم): هو اسم للحُمَّى كما جاء في الصحيح؛ وهي بَلاءٌ عَظيمٌ ومَرضٌ عَظيمٌ،ففي الحديث: ( استأذنتِ الحمَّى على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقالَ من هذِهِ قالت: أمُّ مِلدَمٍ فأمرَ بها إلى أهلِ قباءٍ فلقوا منها ما يعلمُ اللَّهُ فأتوهُ فشكوا ذلكَ إليهِ فقالَ ما شئتُم إن شئتُم دعوتُ اللَّهَ فكشفَها عنكم وإن شئتُم أن تكونَ لكم طهورًا قالوا وتفعلُ يا رسولَ اللَّهِ قالَ نعم قالوا فدَعْها) (مجمع الزوائدللهيثمي،و رجال أحمد رجال الصحيح | انظر شرح الحديث رقم 121120 ، أخرجه أحمد (14433) باختلاف يسير، وأبو يعلى (2319) بنحوه).
تأملوا معي هذه المرأة العجوز التي دخلت على النبي – صلوات ربي وسلامه عليه – فإذا هي الحُمَّى وقد تمثلت، وتجسدت في امرأةٍ عَجوزٍ ثائرة الشعر والرأس، فقالت له: يا رسول الله أرسلني إلى من تحب، وكان النبي يحب الأنصار حبًّا كبيرًا، فأرسلها النبي الكريم إلى بيوتِ الأنصارِ فعاشت الحُمى بينهم حتى وصلت إلى عظامهم، وطَهَّرَتهُم من الذنوب تطهيرا عظيمًا، وكان النبي الكريم إذا قابلهم، قال: مرحبا بمن طَهَّرَهم رَبِّي تطهيرًا، أي الأنصار؛ إشارةً إلى أنَّ (أمَّ مِلْدَم) وما على شاكلتها من الأمراض الوبائية إذا دخلت على حَيٍّ أو على قَريةٍ أو على مدينةٍ أو على مكانٍ فإنها تُغربل الذُّنوب، وتُغربل المعاصي حتى لا تبقى على الناس خطيئةٌ واحدةٌ.
هذه الرواية التي ذكرناها رواية مؤثرة، وهناك رواية أخرى جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل، والرواية الأخرى هي أنَّ الحُمى استأذنت على النبي الكريم، وقد جاءت للنبي في صورة حِسِّيَّةٍ، في صورة امرأةٍ سوداء عجوز ثائرة الرأس، فسأل الرسول: من هذه؟ فقالت: أنا أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، وقباء هو أول حَيٍّ نَزَلَ عليه النبي الكريم عندما هاجر، وقد نزل في قباء قوله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة:108].
عندما ذهبت الحمى إلى أَهْلِ (قِباء) لقوا منها ما يعلم الله، بمعنى أنهم تعبوا وتأذوا منها إيذاءً شديدًا، فشكوا ذلك إلى النبي محمد، فقال النبي: ما شئتم، إِنْ شئتم دعوت الله فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهورا فافعلوا، فقالوا: أو تفعل؟ بمعنى أن النبي لو دعا لهم بابتعادها عنهم ستذهب عنهم، ولو تركت معهم ستكون طهورا لهم؟ فرد النبي قائلا: نعم، فقالوا: يا رسول الله دعها، أي اترك الحمى عندنا فإنَّ الله تعالى يرحمنا بها، وهذه مرتبةٌ عاليةٌ جدًا من الإيمان، ولو تأملنا الحديث لوجدناه نفس حال المرأة الأنصارية السَّوداء التي كانت تأتيها الحُمى أو كان يأتيها الصَّرع فتنكشفُ عورتها، فاشتكت للنبي، صلوات ربي وتسليمه عليه، فَخَيَّرهَا بين أن يدعو الله لها بالشفاء أو أَنْ تَصْبِرَ، فاختارت الصَّبرَ، وقالت: (بَلْ أَصْبِرُ يَا رَسولُ الله)، وطلبت من النبي الكريم الدُّعاء لها بعدم انكشافِ عَوْرَتِهَا.
وكُلّ هذا معناه أَنَّ هذه مُكَفِّرات، وأنَّ أُمَّ مِلْدِم ما هي إلا صورةٌ من صُوَرِ المُكَفِّرات، فيجب علينا أن نصبر، وإذا تأملنا مثل هذه المرأة التي قالت جملة عظيمة، تقول: (لقد طال الصبر وضاق الصبر)، وهي جملة تحمل في معناها المللَ والملالةَ، وعدمَ القُدرةِ على الصَّبرِ، ومثل هذه العبارة فيها نَوعٌ مِنْ الضَّجَرِ ومن السَّأمِ، ومن المللِ وتَعَجُّلِ الفَرَجِ.
إنَّ الفَرَجَ سيأتي لا مَحَالةَ، ولكنَّ المسألةَ أنَّ اللهَ تَعَالى رُبَّما يختار لك شيئًا؛ مَرضًا أو ابتلاءً قد لا تستطيع أن تتحمله وأنت ضَجِرٌ، ولو تقبلته بِصَبرٍ وثَبَاتٍ لَهَانَ الأمرُ عليك، وهذه أحوالُ بعض النَّاس الذين بلغت عندهم مبلغًا عظيمًا، ويجب علينا أَلا نبثَّ شَكْوَانَا وحُزننا إلاَّ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا كُنَّا من أَصْحَابِ الذُّنوبِ – وهذه حقيقةٌ – وجاءت هذه الابتلاءات لتكفير الذنوب فهذا من لُطْفِ اللهِ بك، وإذا لم نكن من أصحاب الذنوب، وجاءت هذه الابتلاءات كي ترفعك درجات عند الله تعالى فهذا من كَرَمِ اللهِ وَرَحمةِ الله عليك، ولذلك جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: «إن الصداع والمليلة لا تزال بالمؤمن وإن ذنبه مثل أحد، فما يدعه وعليه من ذلك مثقال حبة من خردل» [رواه أحمد]؛ فأصحاب الصُّداعِ أو الشقيقةِ، وأصحاب المليلةِ أو الدُّوخةِ ويصبرون عليها؛ فإنَّ كُلَّ ذلكَ يُكَفِّر عنهم السيئات.
ويجب على الناس بعد ازدياد الشكاوى أن يفهموا معنى قولنا: (فقه الابتلاء)، أي ماذا يدور في عقل الإنسان المُبتلى؟ ولو تأملنا كُتبَ السُّنةِ جميعها لوجدناها تُعطي أهميةً كبيرةً جدًا في فَضْلِ المرضِ، ومنها: كتاب رياض الصالحين للنووي؛ إذ وضع فيه بابا اسمه: "فضل المرض"، وكذلك البخاري وضع في صحيحه بابا أسماه: "فضل المرض"، وليس من الضرورة أن يكون هذا المرضُ مرضًا عُضويًا فقط، بَلْ من الممكن أن يكون مرضًا نفسيًا؛ كَمَثَلِ مَنْ عِنْدَهُ اكتئاب، فهو مريض، والمحسود – كذلك - مريض، ومن وَقَفَ حَالهُ مريضٌ هو الآخر، والمرأة التي تأخَّرَ سِنُّ زَوَاجِهَا مَريضةٌ هي الأُخرى؛ فكلّ نفسيةٍ لها ما يتناسب معها في فقه الابتلاء؛ فكل مرض يُصاب به الإنسان مهما كان، صغيرًا أو كبيرا هو يُكَفِّرُ عن الإنسان ذنوبه وسيئاته إن شاء الله تعالى.

تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض