تسامح الإسلام مع الأرقاء
بزغ الإسلام والرق ضرورة من ضرورات الحروب، وعماد من أعمدة النظام
الاقتصادي في كل الأمم، فلو أن الإسلام أبطل الرق دفعة واحدة لهدم هذا الصرح، ولا
وقع الناس في اضطراب، وثورات وشرور، ولأضر بالسادة المالكين وبالأرقاء أنفسهم.
ثم إن الأرقاء لم يكونوا قد بلغوا من الوعي حدًا يسخطهم على مكانتهم،
ويدفعهم أو يدفع بعضهم إلى التمرد والثورة على هذا النظام العام.
ولم يكن الأحرار الذين يقتنون العبيد قد ارتقى بهم تفكيرهم، وسمت بهم
أخلاقهم وعواطفهم إلى الأنفة من امتلاك إخوتهم في البشرية، وإيثار حرية الناس على
تسخيرهم واستعبادهم.
ولهذا لم تحرم اليهودية أو المسيحية الرق، ولم تشرع من القوانين ما يضيق
نظامه، أما الإسلام، فقد نظم الرق كما نظم شئون المجتمع، وسن من الأصول ما يكفل
القضاء على الرق بعد زمن غير طويل، حيث ضيق مسارب الرق، ووضعوا أبوابًا متعددة
يمكن من خلالها القضاء على الرق، وأتاح لتحريرهم فرصًا شتى. وأقر إطلاق السبايا
والأسرى بعوض، وأباح الإسلام للأرقاء أن يكاتبوا سادتهم، وجعل لهم مصارف، يحصلون
من خلالها على المال فجعلهم مصرفًا من مصارف الزكاة، ومن مصادر البر إعتاق الرقبة،
وللعبد أن يتاجر ليكسب ما يقدمه لسيده أقساطًا، وعلى سيده أن يتركه ليعمل أينما
شاء.
كما أباح الإسلام الزواج بالأمة المؤمنة، ومنع الزواج بالحرة المشركة، لأن
الأمة ستلد وتتحرر بولادتها من سيدها.
ومن سماحة الإسلام أن جعل للزوجة الرقيقة حقوقًا على زوجها مثل الزوجة
الحرة.
كما جعل الإسلام عتق الرقبة كفارة للقتل الخطأ، ولإفطار يوم من رمضان عمدًا
للقادر على الصوم، وكفارة للظهار، وكفارة لليمين الغموس الحانثة، كما حبب الإسلام
إلى أتباعه إعتاق من في أيديهم من الأرقاء، ومن ليس في أيديهم ممن يستطيعون شراءهم
وإعتاقهم؛ إذ جعل تحريرهم عملًا صالحًا يؤديه المسلم شكرًا لله على نعمه الجزيلة.
وقد حث الإسلام على الإعتاق.
قال سبحانه: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ
مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ﴾
[البلد: 11-13]. وقال الرسول الكريم r
(أيما مؤمن أعتق مؤمنًا في الدنيا أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار) رواه
النسائي، وقوله: (أيما رجل كانت له جارية أدّبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن
تعليمها، وأعتقها وتزوجها فله أجران). رواه أحمد.
وقالت أسماء
بنت أبي بكر: كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة.
أما ضروب
الرحمة بالأرقاء فكثيرة ومتنوعة فقد حض الإسلام على الرفق بهم وحسن معاملتهم فقد
أوصى الحق سبحانه في كثير من آياته بما ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36]. وقال r: (لقد أوصاني جبريل بالرقيق، حتى ظننت أن
الناس لا تستعبد ولا تستخدم)، وقوله r:
(إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل،
ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم) رواه
البخاري. وقوله: (أرقاؤكم أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، فإن جاءوا بذنب
لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم). رواه أحمد.
وأوصى بهم الرسول في آخر خطبة له. كما أمر
بمناداتهم بفتاي وفتاتي بدلًا من عبدي وأمتي. وتؤكد ممارسات الرسول الكريم وصاحبته
كل ما تقدم، فقد أعتقوا الكثيرين من الأرقاء، وأولوهم مسؤولية كبيرة في قيادة
الجيوش وغير ذلك. ويمكن أن نعرض لصور أخرى لسماحة الإسلام معهم، حيث محا كثيرًا من
الفوارق التي بين العبيد والسادة، فأباح لهم التزوج بالأحرار، وأباح للإماء منهم
التزوج بالعبيد أو الأحرار.
وإذا كان
العبد متزوجًا فإنه يملك وحده حق الطلاق لزوجته، وليس لسيده سلطان على هذا الحق،
كما يحكم الإسلام بشهادة العبد والأمة في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة. وشرح
للعبد المكاتب أن يبيع ويشتري، لأنه مأذون له في التجارة والبيع والشراء من باب
التجارة.
وعدة الأمة
كعدة الحرة سواء بسواء في رأي كثير من الفقهاء.
كما صان
الإسلام العبد من عدوان الآخرين عليه ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾
[المائدة: 45].
وحرم الإسلام
بغاء الإماء، لأن بعض العرب كانوا يكرهون إماءهم على البغاء ﴿لَا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾
[النور: 33].
كما جعل
الإسلام لأولاد السيد من أمته حقوقًا ومكانة مثل إخوتهم من أمهات حرائر بغير تفريق
ما، وكان المعروف في الأمم القديمة التهوين من شأن الأبناء الذين تلدهم الإماء
لسادتهن. وقد كان الرومان يعدون أولاد السبايا عبيدًا كأمهاتهم. وكان اليهود لا
ينسبون ابن الجارية إلى أبيه وإن تهود، وكان من الطبيعي ألا يرث ونفس الشيء عند
الآشوريين والبابليين واليونانيين.
أما العرب قبل
الإسلام فكانوا لا يلحقون أبنائهم من الإماء بنسبهم فلا يرثون إلا إذا ادعوهم،
واشهدوا على أنهم ألصقوا بهم نسبهم، فإن لم يلحق الرجل ابنه بنسبه استبعده.
وهكذا فقد كان
أبناء الإماء عبيدًا في نظر العرب واليونان والرومان واليهود والبابليين، وكانوا
محرومين من الميراث، ولم يغاير العرف إلا المصريون القدماء وأرسطو.