التسامح في العقيدة تميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والعقائد بوضوح العقيدة وسهولة الإيمان بالله تعالى، حيث أمر الناس بعبادة الله وحده، وأنه الإله الواحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، بيده ملكوت السموات والأرض، لا معبود سواه، وأنه لا وساطة بين العباد وخالقهم، ولا شركاء معه، فليس في العقيدة الإسلامية ألغاز لا يعرفها إلا فئة من الأحبار والرهبان، وليس فيها غموض وغبش كما في العقائد الأخرى من تجزئة الواحد إلى ثلاثة، وليس فيها استهانة بالعقل الإنساني ليعبد أحجارًا وأشخاصًا وحيوانات كما في البوذية وغيرها، وإنما هي عقيدة في غاية من اليسر والسماحة، فَهِمَها الأعرابي الذي يعيش في الصحراء حينما قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فليل داج، وسماء ذات أبراج، ألا يدل على الواحد القهار، أو كما قال. ومنذ أكثر من ألف وأربعمائة وثلاثين سنة نهى الإسلام عن إكراه الناس وإجبارهم على اعتناق الدين الإسلامي بعدما تبين لهم الحق، فقد قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99].( ) وليس المقصود ما قد يفهمه بعض الناس من أن الآية تقرر الحرية المطلقة في الدين والتنقل بين الأديان، دون أن يترتب على ذلك أدنى تبعة، فإن هذا لم يقل به أحد من علماء الإسلام. وبناء على ما تقدم، فإن قتل المرتد عقوبة على جريمة كبيرة، أشد في نظر الإسلام من جريمة (الخيانة العظمى) التي تعاقب عليها الدول بالقتل، جراء إفشاء أسرار الدولة، أو التعاون مع عدو خارجي، أو السعي لقلب نظام الحكم، أو ما دون ذلك مما تسنه بعض النظم الوضعية. فالردة كفر مضاعف، والكافر المرتد أعظم جرماً من الكافر الأصلي، لأنه خان خيانة عظمى، ووقع في ظلم عظيم. والله أعلم. والإسلام لم ينتشر بحد السيف لإجبار العالم على اعتناق الإسلام، وعلى هذه الصورة التي هي أثر من آثار القرون الوسطى يقدم الإسلام على أنَّه ثقافة عدوانية من خلال نصوص حكمها وقدمها فكر عدواني في أساسه، تحرص على عرض العلاقات بين الإسلام والغرب بعبارات العنف والعداء، حتى يصبح التشويه هو معالم الإسلام الأساسية. وظل الكفار، على وجه الإجمال، ينعمون في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح لم نكن نجد لها مثيلًا في أوروبا حتى عصور حديثة جدًّا، وإن التحويل إلى الإسلام عن طريق الإكراه محرم، طبقًا لتعاليم القرآن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] , ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [يونس: 99، 100]. والحقيقة أنَّ الفتوحات الإسلاميَّة وانتشار الإسلام بالصورة التي حدثت في تاريخ البشرية، وكانت على غير مثال سابق بهرت الغرب في تاريخه القديم والحديث. فقد انتشر الإسلام بالدعوة وحدها وهو دين اختياري حيث اعتنق الترك والصين الإسلام دون فتوحات أو سيف وهذا دليل قاطع على نفي الإكراه في الدين. والقتال شرع لحماية الضعفاء ورد العدوان والدفاع عن النفس ونصرة الحق وإزالة الشر والفساد ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 190 - 193]. ولم تقتصر سماحة النبي مع المسلمين فقط بل شملت أهل الكتاب والمشركين أثناء الحرب، فقد أوصى بالقبط خيرًا وثبت عنه أنه قال: «إذا فتحتم مصر، فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا» وفي صحيح مسلم: «ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا». أما سماحته مع اليهود فعند ما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر فقد رضي وقبل يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله فقد أخرج البخاري بسنده عن بشير بن يسار قال: زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها فوجدوا قتيلًا، وقـالـوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا وما علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى النبي فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، قال: الكُبرَ الكبرَ، فقال لهم تأتون البينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله أن يُطَّلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة قال ابن حجر: قوله: (باب القَسَامة) بفتح القاف وتخفيف المهملة هي مصدر أقسم قسمًا وقسامة، وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم، وخصّ القسم على الدم بلفظ القسامة. وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان، وقال في المحكم: القسامة الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوب إليهم ثم أطلقت على الأيمان نفسها، قال القرطبي في المفهم: فعل ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به... (فيطلَّ) بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام أي يهدر . قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي ولو تتبعنا المعاهدات التي صدرت عن النبي لوجدنا فيها ضروبًا من التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات " إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة منها ما يخص موادعة اليهود كما يأتي: - إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر عـلى مـن حـارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. - وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله لقد كانت سماحة الإسلام من أعظم أسباب سرعة انتشاره، وكانت تلك السرعة الهائلة التي طوى فيها الإسلام أكثر المعمور من الأرض تحت ظله الظليل؛ كان راجعًا إلى عدل هذه الشريعة وحكمتها، عندما رأى العباد ما لا عهد لهم به من قبل، كانوا يرزحون تحت الظلم والبغي وعبادة العباد، فجاءت هذه الشريعة لتنقذهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ورأى أصحاب البلاد المفتوحة عدل المسلمين وتعاملهم فكان في ذلك أكبر الأثر في انتشار الإسلام في البلدان، على خلاف ما ردد أعداء الدين من تصوير الفتوحات الإسلامية غزوًا ماديًا لنهب ثروات الأمم واغتصاب خيراتها، وحرمانها من نعم الله عليها، وتصوير هذه الفتوحات بأنها إكراه للناس بقوة السلاح على الدخول في الدين. إن هذه الفتوحات كانت رحمة للبلاد المفتوحة، وكان التعامل شاهدًا على عظمة الدين في نفوس الفاتحين، ممن التزم به وتقيد بشرعه، وفي يوم الفتح عندما تمكن النبي من أهل مكة الذين أخرجوه منها، وكانوا قد منعوه من إبلاغ دين الله بينهم، وحالوا دون إيصال الدعوة إلى غيرهم فكفروا هم وصدوا غيرهم عن سبيل الله، ماذا فعل بهم نبي الله لما قدر عليهم؟ هل أخذ بيوتهم؟ هل سفك دمائهم بغير قتال؟ هل ذبح نسائهم وأطفالهم، أم أنه أطلقهم لا تثريب عليكم اليوم، أنتم الطلقاء. وقد استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الدخول في الأمان وأمر بقتلهم ثم عفا عنهم بعد إسلامهم ومنهم: عبد الله بن سرح، فإنه كان أسلم ثم ارتد ولحق بمكة وصار يتكلم بكلام قبيح في حق النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. فلما علم بإهدار دمه لجأ إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان أخا له من الرضاع فقال: يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب عنقي. فغيبه عثمان رضي الله عنه حتى هدأ الناس واطمأنوا، ثم أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار يقول عثمان: يا رسول الله أمّنته فبايعه والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه مرارا. ثم قال نعم فبسط يده فبايعه وأسلم وحسن إسلامه. وعكرمة بن أبي جهل: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله؛ لأنه من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أشد الناس على المسلمين ولما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه هرب ليلقى نفسه في بئر أو يموت تائها في البلاد أو كما نقول الآن: هرب لينتحر غرقا أو جوعا. وكانت امرأته أم حكيم رضي الله عنها بنت عمه الحارث بن هشام رضي الله عنه. أسلمت قبله فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فقال هو آمن فخرجت في طلبه فأدركته فرجع معها وأسلم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بعد ذلك من فضلاء الصحابة. وخالد بن الوليد ابن عمه. وهبار بن الأسود: كان شديد الأذى للمسلمين وكان عرض لزينب رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت فنخس بها الجمل حين سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ولم تزل مريضة حتى ماتت واشترك معه في النخس الحويرث بن نقيد الذي مر ذكره. أهدر دم هبار بن الأسود يوم الفتح فهرب واختفى ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبه وأسلم فعفا عنه ومنع المسلمين من سبه مع أنه كان سبباً في وفاة ابنته.