الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه

الرئيسية المقالات مقالات دينية

الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه

الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
تباركت يا ذا الجلال والإكرام، يا من إحسانه عميم، يا من كرمه جزيل {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] تبارك من في السماء عرشه، وتبارك من في الأرض سلطانه، تبارك من في البحار قدرته، تبارك من في الجبال شدته، تبارك من في الحياة إرادته، تبارك من في الممات مشيئته، والصلاة والسلام على نور الكمال، وكمال النور، ومهبط الأنوار ومجمع الأسرار. محمد بشر في نوره قمر في طهره ملك يمشي على قدم.
الإمام عبد الله بن المبارك. لا أحد في تاريخ الإسلام لا يعرف عبد الله بن المبارك، فهو شيخ الإسلام، وإمام الزاهدين، وقدوة السالكين، ومن أسياد العابدين المتعبدين. ولد عام 118 هجرية في مدينة مرو الزّبد في جمهورية تركمانستان في القرن الثاني الهجري، كان الإسلام قد وصل لآخر العالم. تركمانستان بعدها أوزباكستان آخر دولة في العالم، وهي أقرب مكان للسماء لذا الأقمار الصناعية تصعد من هناك. لم ينته القرن الأول حتى وصل الإسلام إلى كل مشارق الأرض ومغاربها.
نشأته وولادته: كان والد عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يعمل مزارعًا في بستان فقال له صاحب البستان: أعطني رمانًا حلوًا، فأتى برمانة فإذا هي حامضة فانفعل عليه فقطع له رمانة أخرى، فإذا هي حامضة، فقطع له رمانة ثالثة فإذا هي حامضة، فقال له: ألا تفقه ألا تعرف الحامض من الحلو؟ فقال له: أنا لم آكله قبل ذلك فلا أعرف الرمان الحلو من الحامض؛ لأنك لم تأذن لي، فسرّ به صاحب البستان وزوجه ابنته، وأنجبت عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
كان بيتهم كبيرًا؛ خمسون مترا في خمسون مترا، وكان الناس يأتون إليه ليل نهار، فيمتلئ نهارًا، ويبقى الليل مليئًا، والناس لا تعرف إلا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
وأحب عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أن يتعبد فترك مدينة مرو، وذهب إلى الكوفة في مكان لا يعرفه أحد، فلما نزل إلى الكوفة استقرّ في بيت صغير متواضع، فعتب عليه أحد أقرانه قائلًا له: أتترك المكان الواسع في مرو، وتأتي إلى هذا المكان الصغير؟ قال له عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: ما أتركني المكان الواسع إلا كثرة الناس فيه، وأردت أن أستأنس بالله تعالى. فكان يذهب يصلي ثم يأتي إلى بيته المتواضع.
فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش والنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم معي. يعني حياته مرحلة من التألق.
ولك أن تعرف شيئا عن أساتذته أولا: في شبابه ما ترك عبد الله بن المبارك رضي الله عنه مكانًا في العالم الإسلامي يُعرف فيه عالم إلا وذهب إليه، فكان من أساتذة عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: الإمام أبو حنيفة والإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان الثوري، رحمهم الله تعالى. وتعلم من هؤلاء وكانوا أئمة الدنيا في وقته.
وأتى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه إلى مصر، فمكث فيها وتعلّم من فقيهها الليث بن سعد، رحمه الله تعالى. يعني أخذ زبد العصر الذي عاش فيه ما كان هناك عالم في مكة أو في المدينة أو في مصر أو في الشام إلا ومكث عنده عشرات السنين؛ ليأخذ عنه العلم حتى حصل كل علوم عصره.
مجرد ذكر عبد الله بن المبارك في المكان تفوح منه البركة، وكان عبد الله بن المبارك رضي الله عنه مباركًا، وكان الناس يتبركون به. ذهب عبد الله بن المبارك مع أمير المؤمنين رضي الله عنهما إلى مكان، فانجفل الناس عن أمير المؤمنين، واتجهوا حول عبد الله بن المبارك رضي الله عنهما، قالت أم أمير المؤمنين: من هذا؟ فقالوا: عبد الله بن المبارك رضي الله عنه، فقالت: هذا هو المُلْك الذي يحبه الله.
يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما رفع الله تعالى ابن المبارك إلا لخبيئة بينه وبين الله تعالى. يعني فيه سرّ معين بينه وبين الله جعله مستجاب الدعوة.
وذات يوم كان في مكة المكرمة، وكان متزامنًا معه سفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، رضي الله عنهم، فخرج الناس للاستسقاء بعد أن قحطت الدنيا، وأوشك الناس والدواب أن يموتوا عطشا، فخرجوا ومدّوا أيديهم إلى الله تعالى يطلبون السقيا، يقول: وبينما نحن في هذه الحالة، فوجدت شابًا أسود ثوبه خلق بجواري، فرفع يديه إلى الله تعالى قائلًا: "إلهي وسيدي أخلقت الوجوه عنك، كثرت الذنوب والمعاصي، ومساوئ الأعمال، فمنعتنا قطر السماء تؤدّب الخليقة بذلك، فأقسمت عليك بحقي عليك، إلا أسقيتنا الغيث الساعة الساعة".
هذا كلام الشاب. يقول عبد الله بن المبارك: وكان صوته خافتا، فما استتم كلامه حتى غشانا السحاب، ونزل علينا القطر من كل مكان، فتبعته فوجدته عبدا نحيفا لأحد الأغنياء في مكة، وأراد عبد الله بن المبارك أن يأخذه فرفض مالكه؛ لأنه بركة البيت، وإذا أخذته أخذت بركة البيت، وطول الليل يخلو إلى الله، ولا حال معه إلا مع الله سبحانه وتعالى. لذا يقول لربنا: أقسمت عليك بحقي عليك.
وعُرف عن عبد الله بن المبارك أنه مجاهد في سبيل الله، وكان يتقدم المبارزون واحد ينزل هنا وواحد ينزل من هنا، وذات مرة في إحدى المعارك جاء أعجمي كبير ضخم الجثة فقال: من يبارزني؟ فتقدم إليه جند مسلم فقتله الأعجمي، ثم تقدم إليه جندي آخر فقتله الأعجمي، ثم تقدم إليه جندي ثالث فقتله الأعجمي، ثم أتى إليه رجل ملثم الوجه فقتل الأعجمي، فكشفوا عن وجهه فإذا هو عبد الله بن المبارك {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34].
وكان يسير ذات مرة فمرّ برجل كفيف علم أنه عبد الله بن المبارك فقال له: يا إمام ادع الله تعالى أن يردّ إلي بصري قال: فردّ الله إلي بصره في الحال.
قال سفيان بن عيينة: ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن المبارك. وليس بينه فرق بينه وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم. أما هو فإن أعماله هي أعمال الصحابة، وأخلاقه هي أخلاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وكان زميله في الحب في الله هو الفضيل بن عياض، وكان الفضيل مجاورا في مكة يعني جالس في مكة ليس له عمل إلا العبادة بينما كان عبد الله بن المبارك يخوض المعارك في خورستان، وخراسان، فأرسل إليه هذه الرسالة سنة 177 هـ وكان مرابطا بطرسوس في آخر آسيا الوسطى، والفضيل في مكة:
يَا عَابِدَ الحَرَمِيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا
لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ تَلْعَبُ
مَنْ كَانَ يَخْضِبُ جِيْدَهُ بِدُمُوْعِهِ
فَنُحُوْرُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ
أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِلٍ
فَخُيُوْلُنَا يَوْمَ الصَّبِيْحَةِ تَتْعَبُ
رِيْحُ العَبِيْرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيْرُنَا
رَهَجُ السَّنَابِكِ وَالغُبَارُ الأَطْيَبُ 
وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَا
قَوْلٌ صَحِيْحٌ صَادِقٌ لاَ يُكْذَبُ

لاَ يَسْتَوِي وَغُبَارُ خَيْلِ اللهِ فِي
أَنْفِ امْرِئٍ وَدُخَانُ نَارٍ تَلهبُ
هَذَا كِتَابُ اللهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا
لَيْسَ الشَّهِيْدُ بِمَيِّتٍ لا يكذبُ
فلما قرأها الفضيل وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح وبلغ.
كان عبد الله بن المبارك مجاهدا وعالما وفقيها، وحج دون أن يذهب إلى الحج وهذه قصة مشهورة أحب ذكرها ، كان خارجا إلى الحج وفاجئته أمه أنها تحتضر فلم يخرج إلى الحج في هذا العام، وظلّ بجوار أمه يطببها ويمرضها حتى لقيت ربها، المهم كان له عذر قاهر حال بينه وبين الحج ، فلما عاد الناس من الحج أتى الناس يهنئونه بأنه قد حج، وقالوا: لقد رأيناك في عرفات الله تعالى رأيناك تطوف مع الطائفين.
وأنا صغير خرجت للعمرة وأنا عندي عشر سنين، وكان في قريتنا اثنان من الكبار الصالحين، ولكنهم لا يستطيعون عمل عمرة ولا حجة، وأنا في العمرة أراهما أمامي فتصورت أنهما معنا في العمرة، ولم يدر في ذهني أنهم لم يخرجوا من دقميرة، وما من مكان ذهبت إليه في مكة أو المدينة إلا كانا أمامي.
لذا قالوا: إن أرواح الصالحين تحجّ وأجسادهم في مكانهم.
فحجّ عبد الله بن المبارك بروحه، وشاهده الناس يحج مع الحجيج ويطوف مع الطائفين ويسعى مع الساعين، ولكنه لم يغادر بلده في هذا العام.
وكان يسمى بأمير المؤمنين في الحديث، ونقل عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي؛ لأنه صحب كبار العلماء في تاريخ الإسلام فأستاذه: الإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، والأعمش وحماد بن زيد، والليث بن سعد، فلازم يكون فلتة من فلتات الزمان.
لذا اتسم بالذكاء الحاد؛ لأن هؤلاء الناس لهم نورانية خاصة مع الله سبحانه وتعالى؛ لذا لمح الشاب الذي كان يدعو بجواره صاحب الدعاء المستجاب، وذهب إلى الفضيل بن عياض في نفس الليلة وقال له: لقد حدث كذا وكذا، فقال له: لو شئت قابلته غدا. قال: لا لن أنام الليل حتى أراه، وظلّ الليل كله يدور على دور مكة حتى وصل إلى هذا الشاب مستجاب الدعوة، يعني عنده عزيمة في العطاء، وعنده خبيئة بينه وبين الله عز وجل.
القصيد التي قلتها آنفا:
يَا عَابِدَ الحَرَمِيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا
لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ تَلْعَبُ
بعض الناس تقول: إنها منسوبة على عبد الله بن المبارك؛ لأنه لا يعقل أن يقول للفضيل بن عياض: إنك فِي العِبَادَةِ تَلْعَبُ. لكن هذا الكلام يحتمل معنى مجازي لذا ألّف ابن المبارك كتابا كبيرا عن فضل الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لذا شيخ الإسلام الإمام الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) قال: عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام، وإمام المجاهدين، وأمير المؤمنين في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طبعا من يجاهد في سبيل الله، ويفتح البلدان بخلاف من يجلس ليس له جهاد إلا جهاد نفسه والشيطان في الحرم. فالقصيدة على ما يبدو صحيحة رغم إنكار بعض الناس لها.
وقال العلماء في فضل عبد الله بن المبارك: ما ذكره أحد بسوء إلا أخذه الله، وكان إذا وقع فيه أحد اتهمه الناس في دينه؛ لأنه كان حجة في الإسلام، وكان بابا عظيما في سدّ أبواب الفتن على المسلمين، وكانت حياته جهادا، وموته موعظة، وتوفي في العراق الحبيب، ودفن في مدينة الأنبار، عن عمر ثلاث وستين سنة وهو عمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم خذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك، اللهم أنسنا بك وسعينا إليك واشتياقنا إليك، اللهم كما نورتهم فنورنا، اللهم كما قربتهم فقربنا، اللهم كما أسعدتهم فأسعدنا، اللهم كما عفوت عنهم فاعف عنا، اللهم كما رقيتهم فرقنا، اللهم ارفع درجاتنا كما رفعت درجاتهم، اللهم من السالكين إلى مرضات الله، ومن الراغبين في عفو الله {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
اللهم إنا نستأنس بهذه المجالس بذكر الصالحين، وتذكر أحوالهم فإن في ذكرهم رحمة وبركة، فهم بركة الزمان والمكان، وهم أئمة الإسلام وعمود الإيمان عاشوا وجاهدوا في سبيل الله، وماتوا في سبيل الله فحسنت أعمالهم ونياتهم وخواتيمهم.
أقسم بك عليك يا الله نجنا وإياكم من الأغيار، واجعلنا وإياكم من الأبرار، ولا تكثر بنا أهل النار، وعرفنا بالصالحين من أمثال: عبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض وسفيان الثوري، وأئمة أعلام الهدى الذين أنار الله بهم الإسلام، وفتح بهم قلوبا غلفا، وأعينا عميا، وآذانا صما.
اللهم اهدنا إلى التعرّف عليهم، واجعل حياتنا في محبتهم، أقسم بك عليك يا الله كما أقسم عليك الشاب الأسود، وبحقه عليك يا الله فإني أقسم عليك بحقّ السائلين، وبحقّ الصائمين والمتهجدين إلا عفوت عنا وهديتنا ونورتنا وأكرمتنا وأسعدتنا يا رب العالمين. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. صلى الله عليه وسلم.

تصفح أيضا

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض