الإعجاز في الأسلوب القرآني في خواتيم السور
جاءت
خواتيم الآيات الكريمة جامعةٌ للبلاغة للقرآنية بكل سورها، وتحتاج إلى دراسات
مستفيضة، وجديرٌ بالذكر أنَّ ختام السور القرآنية أهم مصادر استمداد الإعجاز في
لغة القرآن الكريم ونسقه وجماله وإبداعه؛ لما تكتنزه أواخر السور من كُتل إعجازية
وجب على كل مؤمن مسلم التدبر فيها لفهمها، ومن ثم زيادة إيمانه وترسيخه، وإظهارا
لعظمة الرب الخالق الصانع، يقول تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ
الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً﴾ [الكهف:1].
وهذا
مبحث خاص شغلني منذ عشرين سنة ولقد جعلته برنامجا تلفزيونيا اسمه: " أسرار
وأنوار "، وكان يُذاع على قناة المحور المصرية، وتم طبعه كتابا ولله الحمد
في مركز الكتاب للنشر والتوزيع، عام 2003م، ولقد ركزت فيه على سر الإعجاز في
خواتيم السور القرآنية والربط بين خواتيم السورة وصدر السورة التي تليها، ولقد
انتفعت فيه باجتهادات السلف – رحمهم الله – في الموضوع نفسه، فضلا عن معايشتي لروح
كل سورة وموضوعها وأحداثها وتسلسها، فوجدنا – مثلا – أنَّ سورة البقرة تُختم
بالجملة الدعائية: [ ربنا ] ثلاث مرات، وسورة آل عمران – كذلك – تُختم بالجملة
الدعائية [ ربنا ] خمس مرات، فهل يكون هذا خبط عشواء أم أنَّ له صلة وثيقة بأحداث
السورة وموضوعها؟!
من
المؤكد أن التكرارات في الجمل الدعائية هو قوة عظيمة في المعاني والتراكيب
المنسجمة مع بعضها، وكل تركيب يختلف مع الآخر في صدره ونهايته، وسنأخذ مثالا
تأمليا على ذلك:
مثًلا
في المواضع الخمسة:
1-
﴿ رَبَّنَا
إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [آل عمران:192]؛ فهذا الدعاء يمكن أن نسميه (دعاء
النجاة من النار)، ثم يأتي دعاء آخر مُطوَّل له مقدمة ومحتوى وخاتمة في سياق بديع
فريد.
أما
المقدمة فهي قوله تعالى:﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي
لِلإِيمَانِ﴾ [آل عمران:193].
وأما
المحتوى - محتوى الدعاء – فهو قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ [آل عمران:193].
وأما
الدعاء الثالث فقد جاء جامعا شاملا لكل أدعية الرسل عليهم السلام في قوله تعالى:﴿
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران:194]؛ فقد جمعت هذه الجملة
الدعائية - الواردة بالآية الكريمة السابقة – كل أنواع البلاغة حصريا؛ لأنها شملت
كل أدعية الأنبياء بأسلوب قرآني فريد، وقد استخدم الوصل بـ [ ما ] التي تشمل
العاقل وغير العاقل وما فيها من محن وإحن شديدة أتعبت الأنبياء سلام الله عليهم
وصلواته، وقوله تعالى: ﴿ وعدتنا ﴾ نفهم منه مدى اليقين عند الأنبياء في الله عز
وجل وكما استخدم أسلوب الجر في قوله تعالى: ﴿ عَلَى رُسُلِكَ ﴾، ولم يقل – مثلا –
[ مع رسلك ]، وهذه التفاتة قرآنية جميلة تفيد شدة اليقين من الأنبياء في الله عز
وجل؛ لأنَّ كلمة الله عُلوية: ﴿ عَلَى رُسُلِكَ ﴾ لا خلاف عليها، وإذا أردنا أن
نتأمل في كل كلمة في الأدعية - هنا – سنجد أمامنا بحرا من جمال الأسلوب القرآني
الذي لا يغيض نوره، ولا ينقطع إعجازه.
2-
ولا زلنا نتأمل في جمال الإعجاز في خواتيم سورة آل عمران، حتى يأتي الفرج
والاستجابة والقبول مع قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم ﴾[آل عمران:195]؛ إذ نلاحظ سرعة الاستجابة
للأدعية في حرف الفاء التعقيبية التسريعية التي تجبر خاطر السائل، وتُغيث لهفة
المتضرع، ثم استخدم همزة الوصل في قوله: [فاستجاب]، لنفهم منها مدى الوصل
وقوة الاتصال بين العبد وربه عندما يستجيب له، وهذا موضوع جميل وجديد، وهو الإعجاز
في مواضع الأسلوب القرآني في همزتي القطع والوصل في القرآن الكريم، وقول الله
تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ ﴾، ولم يقل:[فأجابهم]؛ تأكيدا لكونهم عاشوا حالة من الطلب
والتضرع والتدرج من اللأواء والمعاناة حتى لم يجدوا بابا إلا باب رحمة الملك
سبحانه وتعالى.
3-
ويجب أن نلاحظ أنَّ [ السين والتاء ] فيهما حالة من التَّرقب والانتظار لدى
المتضرع حتى تأتيه لحظات الندى من الرحمن الرحيم، وهذا – أيضا – موضوع مهم يحتاج
إلى دراسات مستفيضة مستقلة في الإعجاز في صيغ الأسلوب الطلبي في القرآن الكريم أو
في كل سورة على حدة، ولا زلنا نتأمل حتى وصلنا لقوله تعالى:﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ﴾[آل عمران:195]؛ والمتأمل في الآية الكريمة يلحظ أنَّ الله تعالى قد قال:
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾، ولم يقل - مثلا – [ فاستجاب ربهم ]؛ حيث إنَّ
استخدام شبه الجملة هنا يوضح مدى تعلق السائل والمتضرع برحمة الملك سبحانه وتعالى،
وكأنه مع موعد مع الفرج لهم مع صدق الرجاء وشدة اليقين، ولم يقل الحق سبحانه
وتعالى مثلا: [فاستجاب الله لهم]، وإنما استخدم كلمة: [الرب]، وذلك لتأكيد مدى صلة
العبد بربه عندما يشتد الضيق عليه فيلح في الدعاء: [ ربنا ربنا ربنا ربنا ربنا].
4-
ولا يخفى مدى الجمال في كلمة [الرب] في القرآن الكريم بمعنى السيد والقائم على أمر
الكون والمتصرف في أمور عباده والحامي والحافظ لهم سبحانه وتعالى.
وقوله
تعالى:﴿ رَبُّهُمْ ﴾ فالميم في آخر الكلمة التي تفيد مطلق الجمع نفهم منها أنَّ
الله تعالى هو رب الجميع، ورب الأكوان، ورب العباد، والمغيث لهم في كرباتهم عندما
تضيق الحياة عليهم لا يجدون ملاذا إلا ملاذه، يقول تعالى:﴿ قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ﴾[ الأنعام:64].
5-
ويستمر الإعجاز في خواتيم سورة آل عمران حتى نصل إلى قوله تعالى في الآية:[195] ﴿
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾؛ والجميل فيها أنها قد بدأت بشبه الجملة مع
العطف على سياقات التكريم العظيمة التي جاءت قبلها لمن أخلصوا في الدعاء والهجرة
إلى الله عز وجل، والتحمل في سبيل الله فكانت المفاجأة عظيمة في آخر الآية ببيان
تفصيلي، يروي كل أرض عطشانة إلى لغة القرآن الكريم البديعة الفريدة خاصة لمن
يستمتعون بترتيل الآيات الكريمة مع جمال الإيقاع والتناغم الصوتي وقوة الجمل وجمال
التصوير الفني الذي لا مثيل له، وهذا يتأكد عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [ آل عمران:195].
ونعاود
التأمل في قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾، نجد تصدير الجملة
بالجار والمجرور، يدخل في إطار جملة القصر أو الحصر، أي أنَّ الثواب كله من الله
سبحانه وتعالى، ثم يتأكد هذا بقوله:﴿عِندَهُ﴾، أي أنَّ استقرار الجزاء الصالح في
أوله وآخره عند الله تبارك وتعالى وليس عند غيره فلا يستطيع أحدٌ أن يكافئ الإنسان
الصالح الصابر على ثباته وصدقه إلا الله سبحانه وتعالى، منه الفضل وإليه الأمر كله.
وقوله
تعالى: ﴿ حُسْنُ ﴾ يفيد مدى تميز الجزاء الأوفى الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى
لعباده أعظم مما تمنوا خاصة في الآخرة، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:﴿ فَلاَ
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[السجدة:
17].
ثم
إننا نجد أن الله تعالى قد أضاف كلمة جميلة جدا إلى الآية، وهي كلمة تفوق التوقع
البشري؛ إذ لم يقل الله – مثلا – [حسن العطاء]، وإنما قال تعالى:﴿ حُسْنُ
الثَّوَابِ ﴾؛ فكلمة [الثواب] هنا نفهم منها دقة الحساب عند الله تعالى: ﴿ وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء:47].
وهكذا
فإن الثواب يكون في مقابله العقاب؛ فالله تعالى لا يتكلم عن الثواب فقط، وإنما
يتكلم عن درجات النعيم الأعلى لكل من تحققت فيهم شروط الآية الواردة بسورة آل
عمران، وفيها يقـول المـولى عز وجل: ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾[ آل عمران:195].
وعندما
تأتي الإثابة من الله تعالى فلا سقف لحدود عطائه، ولا تخيُّل لاتساع خزائنها، كما
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ﴾[ المائدة:85].