((لا تقعدوا فُرَّاغًا فإن الموت يطلبكم))
هذه حكمة من نوعٍ خاص؛ لأنها
تحمل ترياق الصالحين الذين عاشوا الإيمان بالعمل وليس بالكلام، عاشوا الإيمان ليس
نقلًا عن فلان، وإنما عاشوا الإيمان كما ينبغي أن يعيشه المسلم، هذه الحكم تنبعث
من قلوب صادقة، ومن نفسيات ثابتة، ومدادها وأساسها وميزان عملها هو أن ساعات
الإنسان مقدرة، بل إن شئت قل معدودة، ولماذا أقول ساعات الإنسان؟.
دعني أكون صريحًا معك وأقول
لك: إن أنفاسك هي الأخرى معدودة، وأتعبُ الناس من جلت مطالبه، أي: تعالت مطالبه،
فتجده على حد قول ابن الجوزي ليس راضيًا عن نفسه، وليس راضيًا عن غيره، وأمثال هذه
النوعية الذين جلت مطالبهم، أي أصحاب الغايات العالية، يريدون وجهه كما قال الملك،
وحُق له أن يكون الملك: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:28 ].
بقوة، فعنصر القوة في أخذ
الرسالة وفي تبليغ الرسالة، وفي التأكيد على الرسالة، وفي حفظ الرسالة، وفي متابعة
الرسالة، وهذه مسألة مهمة جدًّا.
إذا أقمت بيتًا عظيمًا شاهقًا
مثل الجبال لكنك لم تعتنِ به، ولم تتابعه، فسيعلوه الخراب، وتسرح فيه العناكب
والحشرات.
عندك زوجة، وعندك أولاد، وعندك
صلة أرحام، وعندك وعندك.. كل هذه واجبات عليك، ولن تستطيع أن تتفلَّت منها، وإن لم
تقم بها، وإن لم تحسن إلى هؤلاء وإلى نفسك مع الله عز وجل، فإنك مأخوذ بها يوم
القيامة، محاسب عليها، فكل ذي حق يريد أن يقتص منك يوم القيامة.
لأجل هذا، الذي يتأمَّل في
حالة نفسه يرى أن إمام المحدثين شعبة بن الحجاج البصري رحمه الله تعالى، يقول:
((لا تقعدوا فُرَّاغًا...))، صحيح، فكيف يقعد فارغًا وهو سيحاسب على الفتيل
والقطمير والنقير.
هل هذا عنده فراغ؟ أنت تعلم أن
سنواتك محدودة، وأن أنفاسك معدودة، وأن النفَس محسوب عليك، كيف لك أن يكون عندك
فراغ.
يوم ينادَى على الناس لكي
يُقبلوا على العمل في وظائف شاغرة في أماكن معينة، ولا يُقبل أحد فاعلم أن الناس
قد ماتوا، واعلم أن الناس جالسون يمدون أيديهم ينتظرون الصدقات، وليس هناك أمة
تعيش على الأماني، وقد علمتم، وعُلِّمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
لكنها تمطر حجارةً على
الظالمين، كما ذكر الملك: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}
[الأنفال: 32]
إذا لم تتعب وتعرق في طلب
العيش فإن الحياة لا قيمة لها، ولو استشعرت أنك مرفّهٌ فحياتك لا قيمة لها،
فالمسلم يكون مضغوطًا في حياته، ولذا قال الملك: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ
فِي كَبَدٍ}[البلد: 4].
الذين يتغذون بالنعيم، ويعيشون
على الراحة، ويتفيؤون الظلال ليسوا منَّا، والذي يمر عليه اليوم كاملًا، ولم
يبْدِع فيه شيئًا، ولم يؤثر فيه مجدًا، ولم يتعلم فيه علمًا، فإن حياته لا قيمة
لها، فإن باطن الأرض خير له من ظاهرها.